للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أردت أن تفصح فيه بالتشبيه، خرجت إلى شيء تعافه النفس ويلفظه السمع، ومثال ذلك قول ابن المعتز: [من مجزوء الكامل]

أثمرت أغصان راحته ... لجناة الحسن عنّابا «١»

ألا ترى أنّك لو حملت نفسك على أن تظهر التشبيه وتفصح به، احتجت إلى أن تقول: «أثمرت أصابع يده التي هي كالأغصان لطالبي الحسن، شبيه العنّاب من أطرافها المخضوبة»، وهذا ما لا تخفى غثاثته. من أجل ذلك كان موقع «العناب» في هذا البيت أحسن منه في قوله:

وعضّت على العنّاب بالبرد وذاك لأن إظهار التشبيه فيه لا يقبح هذا القبح المفرط، لأنك لو قلت:

«وعضّت على أطراف أصابع العنّاب بثغر كالبرد»، كان شيئا يتكلّم بمثله وإن كان مرذولا. وهذا موضع لا يتبيّن سرّه إلّا من كان ملهب الطبع حادّ القريحة. وفي الاستعارة علم كثير، ولطائف معان، ودقائق فروق، وسنقول فيها إن شاء الله في موضع آخر.

واعلم أنّا حين أخذنا في الجواب عن قولهم: «إنه لو كان الكلام يكون فصيحا من أجل مزيّة تكون في معناه، لكان ينبغي أن يكون تفسيره فصيحا مثله»، قلنا:

«إن الكلام الفصيح ينقسم قسمين، قسم تعزى المزيّة فيه إلى اللفظ، وقسم تعزى فيه إلى النظم»، وقد ذكرنا في القسم الأول من الحجج ما لا يبقى معه لعاقل، إذا هو تأمّلها، شكّ في بطلان ما تعلّقوا به، من أنه يلزمنا في قولنا: «إنّ الكلام يكون فصيحا من أجل مزية تكون في معناه»، أن يكون تفسير الكلام الفصيح فصيحا مثله، وأنه تهوّس منهم، وتقحّم في المحالات.

وأمّا القسم الذي تعزى فيه المزية إلى «النّظم» فإنهم إن ظنّوا أن سؤالهم الذي اغترّوا به يتّجه لهم فيه، كان أمرهم أعجب، وكان جهلهم في ذلك أغرب. وذلك أن «النظم»، كما بيّنا، إنّما هو توخّي معاني النحو وأحكامه وفروقه ووجوهه، والعمل


(١) البيت في ديوانه (٤٠) ط، دار صادر، بيروت، وهو من قصيدة مطلعها:
جار هذا الدهر أو آبا ... وقراك الهم أو صابا
ووفود النجم واقفة ... لا ترى في الغرب أبوابا
والجناة: القاطفون. العناب: أراد أنامله التي تشبه العناب باحمرارها. ورواية الديوان: «لجناة الحسن» بدل «بجنان الحسن».

<<  <   >  >>