للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أن أوهموا أنفسهم وهما كاذبا أنهم قد أبانوا الوجه الذي به كان القرآن معجزا، والوصف الذي به بان من كلام المخلوقين، من غير أن يكونوا قد قالوا فيه قولا يشفى من شاكّ غليلا، ويكون على علم دليلا، وإلى معرفة ما قصدوا إليه سبيلا.

واعلم أنه إذا نظر العاقل إلى هذه الأدلّة فرأى ظهورها، استبعد أن يكون قد ظنّ ظانّ في «الفصاحة» أنّها من صفة اللفظ صريحا. ولعمري إنه لكذلك ينبغي، إلّا أنّا إنما ننظر إلى جدّهم وتشدّدهم وبتّهم الحكم «بأن المعاني لا تتزايد وإنما تتزايد الألفاظ»، فلئن كانوا قد قالوا «الألفاظ» وهم لا يريدونها أنفسها، وإنما يريدون لطائف معان تفهم منها، لقد كان ينبغي أن يتبعوا ذلك من قولهم ما ينبئ عن غرضهم، وأن يذكروا أنهم عنوا بالألفاظ ضربا من المعنى، أن غرضهم مفهوم خاصّ.

هذا، وأمر «النظم» في أنه ليس شيئا غير توخّي معاني النحو فيما بين الكلم، وأنك ترتّب المعاني، أوّلا في نفسك، ثم تحذو على ترتيبها الألفاظ في نطقك، وأنّا لو فرضنا

أن تخلو الألفاظ من المعاني، لم يتصوّر أن يجب فيها نظم وترتيب في غاية القوة والظهور، ثمّ ترى الذين لهجوا بأمر «اللفظ» قد أبوا إلّا أن يجعلوا «النّظم» في الألفاظ. ترى الرّجل منهم يرى ويعلم أن الإنسان لا يستطيع أن يجيء بالألفاظ مرتّبة إلّا من بعد أن يفكّر في المعاني ويرتّبها في نفسه على ما أعلمناك، وثم تفتّشه فتراه لا يعرف الأمر بحقيقته، وتراه ينظر إلى حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تقع مرتّبة في نفسه إلا من بعد أن تقع الألفاظ مرتبة في سمعه، نسي حال نفسه، واعتبر حال من يسمع منه. وسبب ذلك قصر الهمّة، وضعف العناية، وترك النّظر، والأنس بالتقليد. وما يغني وضوح الدّلالة مع من لا ينظر فيها، وإنّ الصّبح ليملأ الأفق، ثم لا يراه النائم ومن قد أطبق جفنه؟.

واعلم أنك لا ترى في الدّنيا علما قد جرى الأمر فيه بديئا وأخيرا على ما جرى عليه في «علم الفصاحة والبيان».

أما البديء، فهو أنك لا ترى نوعا من أنواع العلوم إلّا وإذا تأملت كلام الأوّلين الذين علّموا الناس، وجدت العبارة فيه أكثر من الإشارة، والتصريح أغلب من التّلويح. والأمر في «علم الفصاحة» بالضد من هذا. فإنك إذا قرأت ما قاله العلماء فيه، وجدت جلّه أو كلّه رمزا ووحيا، وكناية وتعريضا، وإيماء إلى الغرض من وجه لا يفطن له إلّا من غلغل الكفر وأدقّ النّظر، ومن يرجع من طبعه إلى ألمعيّة يقوى معها على الغامض، ويصل بها إلى الخفي، حتى كأنّ بسلا حراما أن تتجلّى معانيهم سافرة

<<  <   >  >>