وقد رابني وهن المنى وانقباضها ... وبسط جديد اليأس كفّيه في صدري
ليس المعنى على أنه استعار لفظ «الكفين» لشيء، ولك على أنّه أراد أن يصف اليأس بأنه قد غلب على نفسه، وتمكّن في صدره. لو ما أراد ذلك وصفه بما يصفون فيه الرجل
بفضل القدرة على الشيء. وبأنّه ممكّن منه، وأن يفعل فيه كلّ ما يريد، كقولهم:«قد بسط يديه في المال ينفقه ويصنع فيه ما يشاء»، و «قد بسط العمل يده في الناحية وفي ظلم الناس»، فليس لك إلّا أن تقول: إنه لما أراد ذلك، جعل لليأس «كفّين»، واستعارهما له، فأمّا أن توقع الاستعارة فيه على «اللفظ»، فما لا تخفى استحالته على عاقل.
والقول في «المجاز» هو القول في «الاستعارة»، لأنه ليس هو بشيء غيرها، وإنما الفرق أنّ «المجاز» أعمّ، من حيث أن كلّ استعارة مجاز، وليس كلّ مجاز استعارة.
وإذا نظرنا من «المجاز» فيما لا يطلق عليه أنه «استعارة»، ازداد خطأ القوم قبحا وشناعة. وذلك أنه يلزم على قياس قولهم أن يكون إنّما كان قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً [يونس: ٦٧]، أفصح من أصله الذي هو قولنا:«والنهار لتبصروا أنتم فيه، أو مبصرا أنتم فيه»، من أجل أنه حدث في حروف «مبصر» بأن جعل الفعل للنّهار على سعة الكلام وصف لم يكن. وكذلك يلزم أن يكون السبب في أن كان قول الشاعر:[من الرجز] فنام ليلي وتجلّى همّي «١» أفصح من قولنا: فنمت في ليلي أن كسب هذا المجاز لفظ «نام» ولفظ «الليل» مذاقة لم تكن لهما. وهذا مما ينبغي للعاقل أن يستحي منه، وأن يأنف من أن يهمل النّظر إهمالا يؤدّيه إلى مثله، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق.
وإذ قد عرفت ما لزمهم في «الاستعارة» و «المجاز»، فالذي يلزمهم في «الإيجاز» أعجب. وذلك أنه يلزمهم إن كان «اللّفظ» فصيحا لأمر يرجع إليه نفسه دون معناه أن يكون كذلك موجزا لأمر يرجع إلى نفسه. وذلك من المحال الذي يضحك منه، لأنه لا معنى للإيجاز إلّا أن يدلّ بالقليل من اللفظ على الكثير من المعنى، وإذا لم تجعله وصفا للّفظ من أجل معناه، أبطلت معناه، أعني أبطلت معنى الإيجاز.