نسقا وترتيبا، حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها، ثم يكون للذي يجيء بها مضموما بعضها إلى بعض، غرض فيها ومقصود، لا يتمّ ذلك الغرض وذلك المقصود إلّا بأن يتخيّر لها مواضع، فيجعل هذا أوّلا، وذلك ثانيا؟ فإنّ هذا ما لا شبهة فيه على عاقل. وإذا كان الأمر كذلك، لزمك أن تبيّن الغرض الذي اقتضى أن تكون ألفاظ القرآن منسوقة النّسق الذي تراه.
ولا مخلص له من هذه المطالبة، لأنه إذا أبى أن يكون المقتضي والموجب للذي تراه من النّسق، المعاني وجعله قد وجب لأمر يرجع إلى اللّفظ، لم تجد شيئا يحيل في وجوبه عليه البتّة، اللهمّ إلا أن يجعل الإعجاز في الوزن، يزعم أنّ «النسق» الذي تراه في ألفاظ القرآن إنما كان معجزا، من أجل أن كان قد حدث عنه ضرب من الوزن يعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله.
وإذا قال ذلك، لم يمكنه أن يقول:«إن التحدّي، وقع إلى أن يأتوا بمثله في فصاحته وبلاغته»، لأنّ الوزن ليس هو من الفصاحة والبلاغة في شيء، إذ لو كان له مدخل فيهما، لكان يجب في كلّ قصيدتين اتّفقتا في الوزن أن تتّفقا في الفصاحة والبلاغة.
فإن دعا بعض الناس طول الإلف لما سمع من أن الإعجاز في اللفظ، إلى أن يجعله في مجرّد الوزن كان قد دخل في أمر شنيع، وهو أن يكون قد جعل القرآن معجزا، لا من حيث هو كلام، ولا بما به كان لكلام فضل على كلام! فليس بالوزن ما كان الكلام كلاما، ولا به كان كلام خيرا من كلام.
وهكذا السبيل إن زعم زاعم أن الوصف المعجز هو «الجريان والسّهولة»، ثم يعني بذلك سلامته من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللّسان لأنه ليس بذلك كان الكلام كلاما، ولا هو بالذي يتناهى أمره إن عدّ في الفضيلة إلى أن يكون الأصل، وإلى أن يكون المعوّل عليه في المفاضلة بين كلام وكلام، فما به كان الشاعر مفلقا، والخطيب مصقعا، والكاتب بليغا.
ورأينا العقلاء حيث ذكروا عجز العرب عن معارضة القرآن، قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلّم تحدّاهم وفيهم الشعراء والخطباء والذين يدلّون بفصاحة اللسان، والبراعة والبيان، وقوّة القرائح والأذهان، والذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب ولم نرهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلّم تحدّاهم وهم العارفون بما ينبغي أن يصنع، حتّى يسلم الكلام من أن تلتقي فيه حروف تثقل على اللّسان.