ومن دقيق ذلك وخفيّه، أنك ترى الناس إذا ذكروا قوله تعالى: وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً [مريم: ٤]، لم يزيدوا فيه على ذكر الاستعارة، ولم ينسبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزيّة موجبا سواها. هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم. وليس الأمر على ذلك، ولا هذا الشرف العظيم، ولا هذه المزيّة الجليلة، وهذه الرّوعة التي تدخل على النفوس عند هذا الكلام لمجرّد الاستعارة، ولكن لأن سلك بالكلام طريق ما يسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لما هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي الفعل له في المعنى منصوبا بعده، مبيّنا أن ذلك الإسناد وتلك النسبة إلى ذلك الأوّل، إنّما كانا من أجل هذا الثاني، ولما بينه وبينه من الاتصال والملابسة، كقولهم:«طاب زيد نفسا»، و «قرّ عمرو عينا»، و «تصبّب عرقا»، و «كرم أصلا»، و «حسن وجها»، وأشباه ذلك مما تجد الفعل فيه منقولا عن الشيء إلى ما ذلك الشيء من سببه.
وذلك أنّا نعلم أنّ «اشتعل» للشيب في المعنى، وإن كان هو للرأس في اللّفظ، كما أن «طاب» للنفس، و «قرّ» للعين، و «تصبّب» للعرق، وإن أسند إلى ما أسند إليه. يبيّن أنّ الشرف كان لأن سلك فيه هذا المسلك، وتوخّي به هذا لمذهب أن تدع هذا الطريق فيه، وتأخذ اللّفظ فتسنده إلى الشيب صريحا فتقول:«اشتعل شيب الرأس»، أو «الشيب في الرأس»، ثم تنظر هل تجد ذلك الحسن وتلك الفخامة؟ وهل ترى الرّوعة التي كنت تراها؟
فإن قلت: فما السبب في أن كان «اشتعل» إذا استعير للشيب على هذا الوجه، كان له الفضل؟ ولم بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟
فإنّ السبب أنه يفيد، مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصل المعنى، الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخذه من نواحيه، وأنه قد استغرقه وعمّ جملته، حتى لم يبق من السواد شيء، أو لم يبق منه إلا ما لا يعتدّ به. وهذا ما لا يكون إذا قيل:
«اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس»، بل لا يوجب اللفظ حينئذ أكثر من ظهوره فيه على الجملة. ووزان هذا أنك تقول:«اشتعل البيت نارا» فيكون المعنى: أن النار قد وقعت فيه وقوع الشّمول، وأنها قد استولت عليه وأخذت في طرفيه ووسطه. وتقول:«اشتعلت النار في البيت»، فلا يفيد ذلك، بل لا يقتضي أكثر من وقوعها فيه، وإصابتها جانبا منه. فأما الشمول، وأن تكون قد استولت على البيت وابتزّته، فلا يعقل من اللفظ البتة.
ونظير هذا في التنزيل قوله عز وجل: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: ١٢]،