للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لم يرد أن يدّعي لهم الانفراد، ويجعل هذا الضرب لا يكون إلا منهم، ولكن أراد الذي ذكرت لك، من تنبيه السامع لقصدهم بالحديث من قبل ذكر الحديث، ليحقق الأمر ويؤكّده.

ومن البين فيه قول عروة بن أذينة: [من الهزج]

سليمى أزمعت بينا ... فأين تقولها أينا «١»

وذلك أنه ظاهر معلوم أنه لم يرد أن يجعل هذا الإزماع لها خاصة، ويجعلها من جماعة لم يزمع البين منهم أحد سواها. هذا محال، ولكنه أراد أن يحقق الأمر ويؤكده، فأوقع ذكرها في سمع الذي كلّم ابتداء ومن أوّل الأمر. ليعلم قبل هذا الحديث أنه أرادها بالحديث، فيكون ذلك أبعد له من الشك.

ومثله في الوضوح قوله: [من الطويل]

هما يلبسان المجد أحسن لبسة ... شحيحان ما اسطاعا عليه كلاهما «٢»

لا شبهة في أنه لم يرد أن يقصر هذه الصّفة عليهما، ولكن نبّه لهما قبل الحديث عنهما.

وأبين من الجميع قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان: ٣]، وقوله عز وجل: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ [المائدة: ٦١].

وهذا الذي قد ذكرت من أن تقديم ذكر المحدّث عنه يفيد التنبيه له، قد ذكره صاحب الكتاب في المفعول إذا قدّم فرفع بالابتداء، وبني الفعل الناصب كان له عليه «٣»، وعدّي إلى ضميره فشغل به. كقولنا في «ضربت عبد الله»: «عبد الله ضربته»، فقال: و «إنما» قلت: «عبد الله»، فنبّهته له، ثم بنيت عليه الفعل، ورفعته بالابتداء.

فإن قلت: فمن أين وجب أن يكون تقديم ذكر المحدّث عنه بالفعل، آكد لإثبات ذلك الفعل له، وأن يكون قوله: «هما يلبسان المجد»، أبلغ في جعلهما يلبسانه من أن يقال: «يلبسان المجد»؟


(١) البيت في ديوانه (٣٩٧ - ٤٠٠). وتقولها: بمعنى تظنها.
(٢) الشعر لعمرة الخثعمية، ترثي ابنها، وقال أبو رياش: هو لدرماء بنت سيار بن عبعبة الخثعمية.
شرح الحماسة للتبريزي (٣/ ٦٠ - ٦٤).
(٣) أي: ومبنى الفعل الذي كان له ناصبا عليه.

<<  <   >  >>