للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

من مَخْلُوق، فَفِي دَعوَاهُم دَعَا مَخْلُوق مُوسَى إِلَى ربوبيته فَقَالَ: {إِِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْك} فَقَالَ لَهُ مُوسَى فِي دَعوَاهُم –صدقت ثمَّ أَتَى فِرْعَوْن يَدعُوهُ أَن يُجيب إِلَى ربوبية مَخْلُوق كَمَا أجَاب مُوسَى فِي دَعوَاهُم، فَمَا فرق بَين مُوسَى وَفرْعَوْن فِي مَذْهَبهم فِي الْكفْر إِذا فَأَي كفر بأوضح من هَذَا؟

وَقَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {إِِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُون} .

وَقَالَ هَؤُلَاءِ: مَا قَالَ لشَيْء قطّ قولا وكلاما كن فَكَانَ وَلَا يَقُوله أبدا وَلم يخرج مِنْهُ كلَاما قطّ وَلَا يخرج، وَلَا يقدر على الْكَلَام فِي دَعوَاهُم، فالصم بدعواهم والرحمن بِمَنْزِلَة وَاحِدَة فِي الْكَلَام، فَأَي كفر بأوضح من هَذَا؟

وَقَالَ الله تبَارك وَتَعَالَى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاء} و {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي} و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} وَقَالَ: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} قَالَ هَؤُلَاءِ: لَيْسَ لله يَد وَمَا خلق آدم بيدَيْهِ إِنَّمَا يَدَاهُ نعمتاه أَو رزقاه، فَادعوا فِي يَدي الله أوحش ممال ادَّعَتْهُ الْيَهُود {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وَقَالَت الْجَهْمِية يَد الله مخلوقة، لِأَن النعم والأرزاق مخلوقة لَا شكّ فِيهَا، وَذَاكَ محَال فِي كَلَام الْعَرَب فضلا أَن يكون كفرا. لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل أَن يُقَال: خلق آدم بنعمته، ويستحيل أَن يُقَال فِي قَول الله تبَارك وَتَعَالَى: {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} بنعمتك الْخَيْر، لِأَن الْخَيْر نَفسه هُوَ النعم نَفسهَا. ومستحيل أَن يُقَال فِي قَول الله تَعَالَى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِم} نعْمَة الله فَوق أَيْديهم، وَإِنَّمَا ذَكرنَاهَا هُنَا الْيَد مَعَ ذكر الْأَيْدِي فِي الْمُبَايعَة بِالْأَيْدِي فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} .

ويستحيل أَن يُقَال: {يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} نعمتاه فَكَأَن لَيْسَ لَهُ إِلَّا نعمتان مبسوطتان. لَا تحصى نعمه وَلَا تستدرك، فَلذَلِك قُلْنَا: إِن هَذَا التَّأْوِيل محَال من الْكَلَام فضلا عَن أَن يكون كفرا"١ انْتهى.

قلت: مَا أوضح هَذَا الْكَلَام حجَّة وبرهانا وَمَا أبينه فِي هَذَا الْموقف الخطير الَّذِي ضل فِيهِ أَقْدَام الْمُتَأَخِّرين تقليدا لهَؤُلَاء الأشرار الَّذين أثاروا هَذِه الشكوك والأوهام نَحْو هَذِه الْحَقِيقَة الناصعة وَالْحجّة القوية الباهرة من إِثْبَات الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على وَجه يَلِيق بجلاله وكماله فَهَذَا الشَّيْخ مُحَمَّد زاهد الكوثري الَّذِي سبقت الْإِشَارَة إِلَيْهِ يَقُول فِي مقالاته الْكُبْرَى مَا نَصه:

"بِدعَة الصوتية حول الْقُرْآن" ثمَّ قَالَ: "وَالْوَاقِع أَن الْقُرْآن فِي اللَّوْح وَفِي لِسَان جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام وَفِي لِسَان النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وألسنة سَائِر التالين وَقُلُوبهمْ وألواحهم


١ كتاب الرَّد على الْجَهْمِية: ص ٩٣ -٩٥ المطبوع فِي ليدن سنة ١٩٦٠ م.

<<  <   >  >>