للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

تمّ قَالَ فَضِيلَة الشَّيْخ - نقلا عَن ابْن حجر-:" إِن الْجُمْهُور أَجَازُوا بِالْإِجْمَاع شدّ الرّحال.. الخ.."

فنسأل فضيلته: هَل هَذَا التَّعْبِير صَحِيح؟ ....هَل هُنَاكَ إِجْمَاع لِلْجُمْهُورِ وَإِجْمَاع للْأمة كلهَا؟.. وَهل الْجُمْهُور عدد مَحْدُود معِين حَتَّى نعلم أَنهم اتَّفقُوا فَنَقُول أجمع الْجُمْهُور؟.. وَهل مَذْهَب الْجُمْهُور يُسمى إِجْمَاعًا؟ أَلَيْسَ إِذا قيل: (يرى الْجُمْهُور) فَمَعْنَى هَذَا أَن هُنَاكَ من يخالفهم مِمَّن يعْتد بِرَأْيهِ ويحسب لمذهبه؟.. وَهل خطأ الأول يسوغ الْخَطَأ للثَّانِي؟.. أَلَيْسَ على كل وَاحِد من الْعلمَاء أَن يحرص على أَن لَا يَقع فِيمَا وَقع فِيهِ غَيره من الأخطاء؟..

الصَّحِيح فِي نَظرنَا أَن هَذَا التَّعْبِير خطأ، وَأَن الْإِجْمَاع مَا اتّفق عَلَيْهِ المجتهدون من عُلَمَاء هَذِه الْأمة قاطبة، فِي عصر من العصور دون أَن يُخَالف وَاحِد مِنْهُم، وَبِدُون ذَلِك لَا ترد كلمة إِجْمَاع، وَإِنَّمَا يُقَال: يرى الْجُمْهُور كَذَا، أَو ذهب الْجُمْهُور إِلَى كَذَا.

ثمَّ مَن هَؤُلَاءِ الْمعبر عَنْهُم بالجمهور الَّذين يرَوْنَ جَوَاز شدّ الرّحال لزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ هَل هم جُمْهُور الصَّحَابَة، أم جُمْهُور التَّابِعين، أَو تابعيهم، أَو الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَمن فِي عصرهم، أَو جُمْهُور عُلَمَاء الْقرن الثَّالِث؟

لَا نَدْرِي أَي جُمْهُور هَذَا، غير أننا لَا نستبعد أَن يكون المُرَاد هُنَا جُمْهُور الْعَامَّة فِي الْقرن الرَّابِع وَمَا بعده، بِمَا فيهم بعض المبتدعة من الْعلمَاء أَو المنسوبين للْعلم.

إِن كَانَ أُولَئِكَ هم الْجُمْهُور المُرَاد فِي هَذَا الْمَوْضُوع فالنقل صَحِيح.

أما إِن كَانَ المُرَاد بِهِ جُمْهُور الْعلمَاء من أهل الْقرن الأول أَو الثَّانِي أَو الثَّالِث، أَو الملتزمين بِالسنةِ من الْعلمَاء إِلَى يَوْمنَا هَذَا فالنقل غلط وَالدَّعْوَى مَرْدُودَة، بل الصَّحِيح الْعَكْس على طول الْخط؛ فَفِي الْقُرُون الثَّلَاثَة لم يُوجد من يَقُول بِجَوَاز شدّ الرّحال لزيارة الْقُبُور من الْعلمَاء المعتبرين، وَبعد الثَّلَاثَة وجد من يرى ذَلِك، وَلَكِن مِمَّن شاركوا فِي الابتداع فِي الدّين وَمن لَا يتقيدون بالنصوص الشَّرْعِيَّة، وَلَا يميزون بَين الحَدِيث الصَّحِيح من غَيره، أَمْثَال أبي حَامِد الْغَزالِيّ، وَمَعَ الْأَيَّام اسْتَقَرَّتْ هَذِه الْبِدْعَة - بل الْمعْصِيَة - حَتَّى صَارَت عِنْد كثير من المنتسبين للْعلم أمرا وَاقعا لَا يجوز الْجِدَال فِيهِ، بل يساء الظَّن بِمن يُنكره أَو يتَرَدَّد فِي الْجَزْم بمشروعيته؛ فأولوا الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي النَّهْي مِنْهُ وَمَا أثر عَن الْأَئِمَّة من إِنْكَاره كلما احْتج عَلَيْهِم المتمسكون بِالسنةِ بِحَدِيث أَو قَول إِمَام، كَقَوْلِهِم: إِن مَالِكًا كره اللَّفْظ فَقَط، وَإِلَّا فزيارة قبر النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام من أفضل الْأَعْمَال وَأجل القربات الموصلة إِلَى ذِي الْجلَال، دون أَن يقدموا أدنى دَلِيل من السّنة على صِحَة مَا زَعَمُوا.

ثمَّ نوجه هَذَا السُّؤَال إِلَى فَضِيلَة الشَّيْخ فَنَقُول: حسب علمنَا لَا يجوز أَن يعْتَبر الْجُمْهُور بِكَثْرَة الْعدَد فِي الشؤون العلمية والمذاهب الْفِقْهِيَّة والعقيدة الإبراهيمية المحمدية، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَن ينظر إِلَى الكيف أَولا، وَبعد أَن نميز الْعلمَاء على الْحَقِيقَة لَا على الإدعاء والألقاب نَنْظُر بعد ذَلِك إِلَى مذاهبهم فِي مَسْأَلَة مَا، فَإِذا

<<  <   >  >>