لم يكن يُرِيد ثورة إصلاحية مسلمة شَامِلَة وَإِنَّمَا قَامَ بثورته للحفاظ على منصبه وَطَمَعًا فِي منصب أَعلَى تخلى عَنهُ، وَكَانَ يَقُول:"إِن الشريف حُسَيْن وَأَوْلَاده يُرِيدُونَ الأوطان مزارع للملوك".
لقد قَامَت فِي تِلْكَ الفترة فِي الْبِلَاد الْعَرَبيَّة حركات وجمعيات كَثِيرَة وساهم محب الدّين رَحمَه الله فِي نشاط الْكثير مِنْهَا، وَلكنه كَانَ مُخَالفا لكثيرين من رواد تِلْكَ الحركات، لقد وجد يَوْمئِذٍ نَوْعَانِ من الحركات الْعَرَبيَّة، نوع عنصري قومِي يُرِيد تحطيم الْأُخوة الإسلامية وَضرب الْخلَافَة وتهديم الدولة العثمانية بسلاح النعرات القومية والعصبيات الوطنية, وَهَذَا النَّوْع كَانَ يلقِي التأييد الْكُلِّي من المستعمرين وَمن النَّصَارَى والملاحدة بَين الْمُسلمين وَنَوع يُؤمن بخصائص الْأمة الْعَرَبيَّة الأصيلة وجدارتها بِحمْل رِسَالَة الْإِسْلَام وقيادة الْأمة الإسلامية وزيادتها بِهَذَا الدّين مَعَ الْإِبْقَاء على الْخلَافَة الإسلامية والرابطة الإيمانية فِي نوع من الحكم الذاتي الَّذِي يبرر خَصَائِص كل قطر وكل أمة أَو الْأمة الْعَرَبيَّة بِالذَّاتِ, وَمن دعاة هَذِه الْحَرَكَة كَانَ محب الدّين رَحمَه الله. وَقد دَعَا لفكرته هَذِه فِي بِلَاد الشَّام إِلَى أَن دخلت القوات الفرنسية دمشق وغادرها فيصل ابْن الشريف حُسَيْن قبل دُخُول تِلْكَ القوات فاضطر محب الدّين أَيْضا إِلَى مغادرتها متخفياً فِي زِيّ تَاجر جمال عَرَبِيّ، إِلَى أَن وصل إِلَى الْقَاهِرَة بِجَوَاز سفر مزور حصل عَلَيْهِ من يافا فِي طَرِيقه إِلَى مصر.
وَبعد أَن ضرب محب الدّين رَحمَه الله فِي أرجاء الوطن الإسلامي الْكَبِير من الأستانة إِلَى الْيمن إِلَى الْعرَاق إِلَى مصر فِي مهمات عَظِيمَة رأى أخيرا أَن يسْتَقرّ فِي مصر، وَيجْعَل مِنْهَا مُنْطَلقًا لدعوته وميداناً لجهاده لما لمصر من المكانة والتأثير فِي الْعَالم الإسلامي كُله.
وَفِي هَذِه المرحلة الجديدة مرحلة الِاسْتِقْرَار توضحت معالم شخصية محب الدّين وتحددت مبادئ دَعوته، وبرزت آراؤه وأفكاره بشكل وَاضح ومركز وَاسْتمرّ يَدْعُو لَهَا بعزيمة لَا تعرف الكلل وبهمة لَا تعرف الْملَل إِلَى أَن وافاه الْأَجَل وَهُوَ صابر محتسب.
بعد أَن اسْتَقر محب الدّين رَحمَه الله فِي مصر عمل بعض الْأَعْمَال الفرعية ثمَّ أسس المكتبة السلفية الْكُبْرَى ومطبعتها، وَجعلهَا كبرى وسائله فِي جهاده الطَّوِيل المدى وكفاحه الطَّوِيل النَّفس وَجعل ينشر فِيهَا من كنوز التراث الإسلامي عشرات الْكتب، ويطبع فِيهَا رسائل من تأليفه وتأليف كبار الْعلمَاء والمفكرين من إخوانه، ثمَّ أصدر مِنْهَا مجلته الأولى (الزهراء) وَالَّتِي استمرت عدَّة سنوات، ثمَّ أصدر مجلته الأسبوعية