ثم توجهتُ إلى القاهرة المعمورة. فأتيتها في أواسط الشهرِ المذكور من السنة المذكورة، ودخلتها دخولَ مستوحشٍ لفراقِ ما كنتُ أعهده في زمن مولانا ووليّ نعمتنا جوي زاده أفندي من الأنس فيها، وتذكرتُ تلك الليالي الماضيةَ في خدمته التي لا يُرْجَى عَوْدُ ما ضيها. ثم قصدتُ السلامَ على قلضي قضاتها، وحاكم شرعها بل عينِ حياتها، وهو إذ ذاك فخر الموالي المعتبرين، وصدرُ الأفاضلِ المتبحرين، رمضان أفندي الشهير بناظر زاده، أدام الله تعالى فضله وزاد إسعاده، وقد كنتُ ألفتُ بتلك الديار منزلاً، لمولانا المشار إليه أولاً، أدام الله تعالى له الأنعام، فلما دخلتها " وما أهلها الأهل الذي كنتُ أعهدُ " أنشدت قول القائل: " أمّا الخيام " ثم أقمت في البلد المذكور، إلى تمام السنة المزبورة، أنتظر قافلة تسافر إلى تلك الديار، لأعزمَ معها إلى التسيار، فلم يتفق في تلك الأيام سَفَرُ قافلة أصلا، وكان توجهي بالسرعة إلى القضاء أمراً مهماً لا يحتمل تراخياً ومهلا، فعنَّ لي أن أسافر إلى تلك الديار بحراً، وكنت أقدّم للسفر رجلاً وأؤخر أخرى، إذا تذكرت قول القائل المشهور، " أحجمتُ وكان عندي من مراكبه نفور "، وأن تيمنت بالآية الكريمةِ أقدمت وسألت الله تعالى تيسيرَ الأمور. فعند ذلك قدَّمت مقدماتِ الاستخارة، واستخرتُ الله تعالى الذي ما خاب من استخاره، فشرح الله تعالى في البحر صدري، وسألته عند ذاك تيسير أمري، وتوجهت من القاهرة المحمية في أوائل المحرم الحرام، وأتيت إلى محميةِ دمياط وأقمتُ فيها لإنتظار سفر المراكب عشرةَ أيام، وعندي إلى الأحباب من شدة الشوق ما يمنعني القرار، ثم اقتحمتُ من فَرْطِ الأشواقِ لجحَ البحار، مع أنني كنتُ أهابُ البحر واستهول أن أركب لججه، أو أصعدَ في أمواجه العالية دَرَجة. وركبت في سفن المحبة يسيّرها هوى الشوقِ المعطّر بعبيرِ شذاها، وتلوتُ متيمّناً " باسم الله مجراها ومرساها " وسرنا بنيّةٍ خالصة وعزمٍ صحيح، وصرنا نرضىَ من الأيام بالريح فلما كان بتاريخ عشري المحرم الحرام أشرفنا على طرابلس المحمية فأعلنّا بحمد الله سبحانه وشكره وتلونا:" أن يشأ يُسْكِنِ الريح فَيَظْلَلْنَ رواكدَ على ظهره " ودخلنا البلدة المذكورة وتشوَّفنا لها بازدياد، فوجدناها بلدةً لم يُخْلَقْ مثلها في البلاد، وألفيناها مشحونةً ظَرْفا ولطفاً، ونظرنا من محاسنها ما يعجزث عن حصرهِ اللسانُ ولا يستطيع له وَصْفَا، وجعلناها لهذا المطاف ختاما، واقمنا بها يُوَيْمَاتِ بل أياماً. وكنتُ حال دخولي إلى البلدةِ المذكورة متشوقاً إلى أن أسأله عن أحوال الديار، ومتلفتاً إلى من ينبئني بأخبارٍ تتضمن المسارّ، متمثلاً بقول القائل:
ألا هل أرى مثلي كئيباً أراسِلُهْ ... يسائلني عن محنتي وأسائِلُهْ
فاتفق أن صادفتُ بها فخرَ الأحباب والأدباء، وقدوةَ أهلِ الدخول والنجباء، سيدي محمد بن الفرّا الدمشقي، وكان أتى صحبة الوالدِ من حماةَ إلى القدموس وأقام معه بها من الزمانِ برهة، وأتى طرابلس المحميَة بقصدِ السير والنزهة، فاستخبرتُهُ عن الأحوال، وسألتُهُ عنها بالتفصيلِ والإجمال، فكان بخَبَرِ سلامةِ الأحبابِ نعمَ مبشرٍ وبشير، ووجدتُ عنده من كلِّ شيء خبرا " ولا يُنَبِئُكَ مِثْلُ خبير " فحرَّك ما عندي من سواكن الاشواق، وكادتْ عواملُ المحبةِ تجذبني إلى نحو الديارِ بالأطواق. ثم فارقتُ البلدةَ المذكورةَ في عاشر شهر صفر الخير ولستُ لها قالياً، ورحلت عنها لا راغباً عنها ولا سالياً، ولكن لما قيل:
إذا دنتش المنازلُ زاد شوقي ... ولاسِيَما إذا دَنَتِ الخيامُ
فلمحُ العينِ دون الحي شهرٌ ... ورجعُ الطرفِ دون الشهرِ عام
ثم أتيت إلى محمية القدموس في ثالث عشر الشهر المذكور، وعندي من الشوق إلى الوالد والولد ما لا تحويه السطور، فأنه قد طال مني هذا الاغتراب، وَصَبَّ النوى من أليم هذا الفراق سوطَ عذاب، وقذفتني يدُ البعد عنهم منذ ثلاث سنين ولن ابرحَ الارض حتى يحكم الله بالاجتماع وهو خير الحاكمين:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ... يظنَّانِ كلَّ الظن أن لا تلاقيا