وقال لي: غاية القصد أن تسلي خاطره عنه بوجه جميل، وتكون في باب هبته نعم الكفيل. فرتبت لذلك المقدمات حسب الاستطاعة، فسمح خاطره الشريف به ووهبه هبة لا يملك بعدها استرجاعه، فشكره على هذا الإحسان، وعده له من جملة الامتنان، ثم أن الفقير أرسل مولانا المفتي بعد أيام مكاتبة، ولمح في اثنائها إلى هذه القضية بأدنى مناسبة، حيث قال له في معرض عرض المحبة، ووصف المودة والإخاء والصحبة. وبالجملة: فالعبد لم يحتج في اثبات عبوديته ومحبته إلى حجة وبرهان، كيف لا وهي مبنية على اتقان وأي اتقان.
ثم لما كان سابع شهر رمضان المذكور قصد حضرة مولانا قاضي القضاة، بلغه الله تعالى في الدارين ما يتمناه، ما هو بصدده من التفتيش على الكنيسة المذكورة، وما أحدث فيها طائفة الكفار من الأوضاع المنكورة، فتوجه هو ومولانا المفتي المشار إليه، أسبغ الله تعالى نعمه عليه، وحضر العلماء ومشايخ الإسلام، وجمع كثير من الخاص والعام، وكشفوا على الكنيسة المذكورة، فإذا بقربها مسجد قديم هدم الكفار حيطانه، وحولوا وضعه القديم إلى وضع آخر جددوا بنيانه فعند ذلك أمر سيدنا قاضي القضاة بهدم ما جدده طائفة الكفار من ذلك البنيان، وإعادة المسجد إلى وضعه القديم كما كان، فهدمه المسلمون في الوقت والساعة، وعامل طائفة الكفار بأنواع الخزي والنكال جزاء هذه الشناعة، وقابلهم - قاتلهم - الله تعالى أشد المقابلة، وعزرهم بأنواع التعزير، واعلن المسلمون عند ذلك بالتهليل والتكبير، فضربت الذلة على الكفار وتولوا صاغرين، وأقيمت فيه في الحال الصلوات وشعائر الدين، وكان دخل وقت العصر فتسور مولانا المحراب وصلى بالناس إماما، وأقتدى به المسلمون وذكروا الله قياماً، وصار ذلك يوماً مشهوداص شهيرا " وكان يوماًعلى الكافرين عسيرا " ثم لما أتممنا زيارة تلك الأماكن الشريفة، ورفعنا أيدي الضراعة والإبتهال في تلك المواقف المنيفة، توجهنا لزيارة سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام، وختمنا ذلك بزيارة من تشرفت به تلك البقاع من الرسل الكرام. فعندما قضينا الزيارات وتمت، وحصل إنشاء الله تعالى ثوابها وبركاتها بالخيرات وعمت، حمدنا الله تعالى على هذه النعمة الشاملة، وتمت مدة الإقامة عشرة كاملة. وصلينا جمعة بالصخرة الشريفة وجمعة بالاقصى، وشاهدنا من الانس والبركة ما لا يحصى، وأنشدنا:
شكراً لمن بلجود سر قلوبنا ... في منزل الإسرا وضاعف طوله
مولى قطوف نواله أبدى لنا ... في المسجد الأقصى المبارك حوله
ثم في اليوم الثالث عشر من شهر رمضان عزم مولانا المفتي - حفظ الله تعالى ذاته العلية - على العود إلى دمشق المحمية. فركبنا في خدمة قاضي القضاة لتوديعه، والقلب من فراقه على شفا نار مشغول بتقطيعه، ومدينا الأكف لوداعه:
ولوعة البين تأبى أن تمد يدا
ذكرنا عند ذلك قول القائل:
من لم يمت يوم بين لم يمت أبدا
ثم أنه أوصى الحقير أن لا يقطع مكاتباته عن جنابه السعيد، وأكد ذلك بأنواع التأكيد، ووعد أن يكتب له جواباً عن كل مراسلة ويكون ذلك على سبيل الجبرو المقابلة. فقلت له: والله يا مولانا أن هذا الصب لمغرم في رسائل إخوان الصفا، فقال: إذن المؤمن إذا وعد وفى، ثم أنشدنا تيمناً هنالك، ما ينسب إلى الإمام الغزالي في معنى ذلك:
يا من يريد الرحيل عنا ... كان لك الله في أرتحالك
كان لك الله خير واقٍ ... أمنك الله في المسالك
ثم عزم مولانا المفتي على المسير، وسألنا الله تعالى حسن الإجتماع، " وهو على جمعهم إذا يشاء قدير " وقضيناها سفرة لم يتفق مثلها في الأسفار، وقطعنا الطريق معه بالمواصلة بمقاطيع الأشعار، وحصلنا من حسن مرافقته، ولطف مفاكهته على الحظ الوافر، وأجتنينا من زهرات مصاحبته ما يغني عن الربيع الزاهر.