للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

محرم يا عين أن ترقدي ... وليس في العالم نوم حرام

وكان لذلك الوداع موقف مشهور مشهود، نثر فيه من جمان الدمع لؤلؤ منظوم منضود، وفيه قلت:

موقف للفراق أرخص فيه ... كل در لنا وكل عقيق

بجموع كوجدنا في اجتماع ... ودموع كالشمل في التفريق

وقد أعدت الركاب، وطاشت الألباب، وحضر للوداع جميع الأحباب، وأنا أصبر كصبر ميت على النزاع، وأقول ما خلق الله من عذاب أشد من وقفة الوداع، أعالج السياق، وأعاين المنايا بين أخفاف النياق:

أقول لصحبي حين ساروا، ترفقوا ... لعلي أرى من بالجناب الممنع

والثم أرضا ينبت العز تربها ... وأسقى ثراها من سحائب أدمعي

وينظر طرفي أين أترك مهجتي ... فقد أقسمت أن لا تسير غدا معي

وما أنا ان خلفتها متأسفا ... عليها وقد حلت باكرم موضع

ولما تبرأ التابع من المتبوع، وطفئت نيران الوداع بمياه الدموع، وعطف المودعين لي بالعودة لقطرهم والرجوع، وهم بين راجع بالجسم وهو لي بالقلب مصطحب، وضاحك بما يرجوه لي وهو على وداعي منتحب، أخذت في الارتحال، وأنشدت بلسان الارتجال، بل بلسان الحال:

ليت شعري أنلتقي بعد هذا ... أم وداعا يكون هذا اللقاء

فاذكروني وزودوني دعاء ... خير زاد تزودوني الدعاء

ثم امطيت الطرق طريقه، ولم أبلعه في الأناة ريقه، والفراق يردى فريقه، وقلت:

أأذهبت، أيام الشبيبة والنوى ... وأتلفت باقي العمر؟ يا ضحوة السبت

فقل لجديد العيش: لا بد من بلى ... وقل لاجتماع الشمل: لابد من شت

وسرت بعزمة لا يفل حدها، ولا يتجاوز حدها، وخرمة لا يثنى رسنها، ولا يلم بعين وسنها، وأخلقنا في السير شباب ذلك النهار، وجاريت بدموعي جريان تلك الأنهار، وبت بساحة واد حللنا به بين ظفر التوحش ونابه، أكن الوجد ما غاية الثكلى ان تكنه، وأجن من الحنين ما لا تطبق الجوانح أن تجنه، وأردد:

أهذا ولما تمضي للبين ليلة؟ ... فكيف إذا مرت عليك شهور!

حتى إذا بقى من الليل حد الوصية من المال، قضينا على معزول السرى بالاستعمال، وسرت أحمل أنفاس الصبا حقائب الوجد، وأتمتع من شميم عرار نجد، فما طلع من الغد وجه النهار، ولا بدا فيه حاجب الأسفار، إلا وقد أشرفنا على) المرية (، تتلع إلينا أجياد قصابها وغرفاتها وتبتسم عن ثغور أسوارها، وبلج شرفاتها، كالعذارى شددن مناطفا، وتوجن بالأكيل مفارقا، كأن ترابها عنبر، وحصاها عقيق، وهواها نسيم وماءها رحيق، مغان لها عندي معان وأماكن، فسكانها للنفوس سواكن.

دمن طالما التقت ادمع الح ... زن عليها وادمع العشاق

فهناك شاهدت الظباء مختلطة بالآرام، والغزالة أنيسة النفور والشادي يبادر بالسلام، والعطف من العطف لا يخلو، والحقف بحمل الغصن يمر في كل حين وكلما مريحلو، فحمدنا عند الصباح السرى ودخلنا المدينة أم تلك القرى:

ألوى الضلوع من الولوع بخطرة ... من شيم برق أو شميم عرار

وأنيخ حيث دموع عيني منهل ... يروي وحيث حشاي موقد نار

وعند دخولنا إليها مررنا على بعض البساتين المجاورة لها، فحيانا بوجه مشرق، وحبانا من مذانبه برواء مغدق.

ودولاب إذا أن ... يزيد القلب أشجانا

سقى الغصن وغناه ... فما يبرح نشوانا

فدخلت المدينة بقلب غير داخل، وتلقيت المنام بطرف شحيح بالكرى باخل، وكلما فتشت للأوطان في فكري ذنبا، اجعله سببا للسلو، أو عيبا أركن به إلى الراحة والهدوء، قال الاختبار لا سبيل إلى ذلك، وجعل يعرض علي من حسناتها ما جلا به ظلام الليل الحالك، ولولا أني رجعت إلى جميل الصبر بعد الذهاب، وعللت الروح التي راح سرها لقرب الإياب، لأمسيت أثرا بعد عين، ولكنت أحد من قتله يوم البين:

البين جرعني نقيع الحنظل ... والبين أثكلني وان لم أثكل

ما حسرتي! ان كنت أقضي إنما ... حسرات نفسي أنني لم أفعل

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى ... وحنينه أبدا لأول منزل

<<  <   >  >>