للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

يمينا بئاياته السافرة، وآياته السائرة ان الأحبار لفي حيرة بإفادته كالمحابر والمنابر، بإجادته، وان أوضح الملفوظات ما تلقاه فألقاه، وأصح المحفوظات، ما أحرزه فأبرزه ببصيرته يحتدي البصري، وبكفايته يقتدي الكوفي وبنكتته يستصحب الصاحب وعلى إنشائه يعتمد ابن العميد، وأما الآثار فعليه مدارها ولديه ينفق عندرها وبنذارها. لا جرم إن ذا التحصيل والرأي الأصيل، من طاف بسدة سيادته، وجنح لمعلم علمه فاستعدي الرشاد والسداد واستملي المتن والإسناد ليسعد جده بالحمل على الجادة، ويتحقق في كل صورة ومادة، بين الصبح لذي عينين، وما قلت إلا بالذي علمت سعد، لقد حضرت مجالس تدريسه التي هي منتدى الإعلام، ومنتهى جهد الأسماء الأعلام، وميدان فرسان الطروس والأقلام، وقلائد أعناق مدارس الإسلام. فكان كل من حضرها من علماء الأمصار يحلف انه ما سمع بمثلها من مثله في هذه الإعصار، وان الله أخلصه بخالصة ذكرى الدار، وجعله من أولي الأيدي والأبصار ولقد حل أول شهر رمضان معتكفا بالمسجد الأعظم لالتزام الأوراد والأذكار، والتسبيح والاستغفار، فما كان يبرز منه إلا للإفطار، وقضاء ما خف من الاوطار، ولقد شاهدته بطول الشهر المذكور وقد اختص به واحتل بمنزله من طلبة العلم وغيرهم ما ينيف على الأربعين رجلا سوى عائلته والجميع من عنده يأكلون وإليه ينضمون ويأوون، فسألت ذلك فقيل لي ذلك دأبه وعادته في رمضان كل سنة على تعاقب الدهور والأزمنة. وهذه نبذ من عظام فضائله، ولمع من حسان فعائله، فلنقف عندها، وهي تدل على ما بعدها، ثم نذكر بعض ما سمعت من لفظه ونقلت من خطه أو حفظت فمن ذلك كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض رحمه الله تعالى سمعت جميعه من لفضه بالمسجد الأقصى الشريف وحدثني به بسنده المكتتب بخطه في إجازته لي وقرأت بلفظه جميع كتاب الشفاء هذا، وسمعته بلفظ غيري على جماعة كثيرة من أهل الأندلس غرب العدوة وأثبت سندهم فيه في برنامج روايتي وسمعت عليه بعض كتاب مسلم بن الحجاج رضي الله عنه وجميع الجزء الذي صنفه في تقرير الوحدانية لله تعالى، يشتمل على تفسير قوله تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق، الآية. وجميع بغية الملتمس في عوالي حديث مالك أبن أنس من تخريجه أيضا وهو ستة أجزاء خرجها من كتاب الموطأ، وقرأت وسمعت عليه غير ذلك مما هو مثبت بخطه كذلك وله شعر رائق ونثر فائق اسمعني من ذلك جملة وأنشدني. ومن خطه نقلت لشيخه الإمام العلامة فريد دهره ووحيد عصره قس الفصاحة ملك البلاغة شهاب الدين أبن أبي الثناء محمود بن سليمان الحلبي كاتب السلطان بدمشق كل فريدة غيداء وحديقة غناء رائقة النظم والرصف فائقة الوسم والوصف مالكة القلب والطرف.

يقود عنان السمع حسن نشيدها ... فتزري بالحان الغريض ومعبد

وأنا أول من جلب شعر شهاب الدين هذا فادخله بلاد المغرب وقصيدته اللامية الحافلة التي استوفت كثيرا من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم وهي من القصائد العجيبة والقلائد الغريبة أولها.

هذا اللقاء وما شفيت غليلا ... كيف احتيالي ان عزمت رحيلا

يا دار من أهوى وحقك لم أجب ... داعي التفرق لو وجدت سبيلا

وعددها مائة بيت وواحد وثمانون بيتا، وقال لي شيخي صلاح الدين رضي الله عنه قرأت وسمعت ذلك مع مجموع شعره عليه وأجازنيه، فمما أنشدني له على طريقة مهيار وكتب بها إلى محيي الدين أبن عبد الطاهر رضي الله عنه.

شام على الابرق برقا باديا ... فأنشأت أجفانه الغواديا

وعاج بالركب وقد بدا له ... برق الثنايا وكفاه هاديا

وساق بي العيش قطار دمعه ... لما غدا له الزفير حاديا

ما لاح عن قرب مدى وإنما ... قربه الشوق فكان نائيا

يا برق حق ما، رأى أم شوقه ... أدنى له ما ليس منك دانيا

حن إلى ماء النقي ولم ينزل ... إليه والماء كثير صاديا

يا حبذا ماء العذيب منهلا ... وحبذا وادي الاثيل واديا

وحبذا من النسيم شمألا ... فيه ومسرى رقة يمانيا

وحبذا والورق في غصونه ... تدرس في أوراقها الاماليا

حيث ترى الادمع في رياضه ... مستبقات والنسيم وانيا

<<  <   >  >>