للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

إلى أن وصلنا إلى تبوك التي غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلدها اليوم خراب، وعلى كل جدار غراب، فوردنا البير المبارك التي فاضت ببركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحنا بنزولها وسرحنا في ظل نخيلها ثم سرنا في مهامه تجمع بين النفس والجزع، وتتصيد عنقاء البسالة في شرك الفزع، إلى ان وصلنا إلى العلا بعد مدى بعيد، وعناء شديد، وهي بليدة ذات منظر جميل، كثير المياه والنخيل، وبينها وبين تبوك مسيرة ثمانية أيام، نهارا وليلا وهي مسافة لها مهابة ومخافة، تتعب فيها الركاب، وتفقد الرفقاء والصحاب: وتكابد الخطوب الصعاب، وقديما ضربت العامة بها مثلا فقالت: ترك أبوك بين العلا وتبوك، ثم رحلنا إلى العلا صباحا، وسرنا غدوا ورواحا، إلى أن وردنا بيرا يقال لها) بير الناقة (بقرب الموضع المعروف بمبرك الناقة. ويعنون بالناقة هاهنا ناقة النبي صالح صلى الله عليه وسلم فوافينا بجهد عظيم وعطش عميم، وهجير كأنما أرسل من نار الجحيم، فبتنا بها ثم أدلجنا منها، وتبلج الفجر ونحن نسير في مدن النبي صالح عليه السلام، فعاينت منها عجبا، بيوتا منحوتة من الصخر، ومجالس مكونة من الجبال لا تفنى إلى آخر الدهر، وغرفا معلقة في الهوا مأوى للنسر، وقصورا مقصورة على الوحوش والطير، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين فأدرك الناس العبر، وعاينوا منظرا لا تشرحه عبارة الخبرة، لا يخبر عنه إلا منظره، ولا يشفى من حديثه إلا محضره، وما عدا ذلك فنجم من سماء، ونقطة من ماء:

كما قابل الزند بركان نار ... وحقف الثماد القليل بحار

ولم نزل نسير، وقد جد المسير وحمى الهجير، وعدم الماء، وتحكم العناء، وعم العطش والإعياء وكاد ان يستولي علينا الفناء:

ولذة جسمي ذلك الضنى ... وراحة قلبي ذلك الألم

ولم تزل الحال كذلك حتى وردنا ماء هدبه فأغثنا به غلل الأكباد، وعادت الأرواح للأجساد، ولما شارفنا أرض هدية، تفاءلنا بأن تكون لنا هدية، وقصد عربان الفلا ان يتخذونا كاسمها ويجعلوننا في الدروس كرسمها، فضربوا على ذنب الركب في راس المضيق، وأذاقوه دون برد الماء بأطراف الأسنة عذاب الحريق، فآنبرى من الركب من صرفهم عن تلك النية وصافحهم بيد البلية، ثم حللنا عرى السفر، وحللنا بساحة هدية الظفر، فأحدقنا بها أحداق الهدب بالعين، وأطرنا بمختلس وصالها وغربان البين، واجتلينا منها عروسا قد مد بين يديها بساط الماء، وتوجت بالهلال وقرطت بالثريا ووشيت بنجوم السماء، وبتنا تلك الليلة مسرورين بالقرب مستبشرين، حامدين الله تعالى شاكرين مرتقبين لوشك الرحيل منتظرين:

طال الوقوف برسم الدار يا حادي ... فمن عسى خبر من جانب الوادي

عرج بمنعرج الوادي لعل به ... منهم شفاء لقلب الهائم الصادي

ثم ارتحلنا صبحا، وسرنا نتلقى نجحا، ولم نزل نفري الفلا ونجذب البرا، ونجد السير ونؤثر السرى، حتى بدت أعلام وادي القرى فدنا الأنس، وانشرحت النفس، ونسخ باليوم الأمس، كلما قيل غدا تدنو الدار، ويقرب المزار طربت على السماع، وترقبت الملتقى من ثنيات الوداع، وكفكفت العبرات، وتمثلت بهذه الأبيات:

قالوا غدا تدنو فوا حسرنا ... لو كان بالعمر غدا يشترى

اسمع بالقرب ولكنني ... لا تنطفي ناري حتى أرى

يا ليلة قد بقيت هل ترى ... احمد في صبح رجالك السرى

وحين وصلنا إلى ثنية) المدينة النبوية الكريمة (علما ان لمشاركة اسمها استحقت الثنايا القبل، ولما انجلت عنه من بارقة اللقاء اتصف بها الاشتراك واتصل، فشاهدنا نورا خالف العادة إشراقه، وعز على ضوء النسرين لحاقه عرفته البصائر قبل الأبصار وأنكرته النواظر لعلو جوهر نزره على الأنوار، ففسحت لطرف طرفي في ذلك الأفق مجالا، وأرسلت دمعي سجالا ونظمت ارتجالا:

الله أكبر حبذا إكباره ... لاح الهدى وبدت لنا أنواره

لاحت معالم يثرب وربوعها ... مثوى الرسول وداره وقراره

هذا النخيل وطيبة ومحمد ... خير الوري طرا وها أنا جاره

هذا المصلى والبقيع وهاهنا ... ربع الحبيب وهذه آثاره

هذه منازله المقدسة التي ... جبريل ردد بينها تكراره

هذه مواضع مهبط الوحي الذي ... تشفى الصدور من العمى اسطاره

<<  <   >  >>