للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وساورته، فما رأيت فراقا أبعد ملتقى ولا استناما أقصى مرتقى، من فراق المحصب.

فريقان منهم جازع بطن نخلة ... وآخر منهم قاطع نجد كبكب

منهم مشرق إلى الغاية، ومغرب إلى النهاية، وشمالي بغير موعد وجنوبي ولات حين مرصد، ولا شك والله أعلم، أنه عيار لفراق يوم الموقف، فإنه بين آخذ إلى الجنة ومحمول إلى النار، ولا ملتقى أبدا، وأقمنا إلى أن خرجنا من منى بعد رمي الجمرة الأخيرة، وصلاة الظهر من يوم الأحد رابع يوم النحر، فنزلنا بخارج مكة شرفها الله تعالى بئابار الزاهر، ثم أحرمنا للعمرة بمسجد عائشة رضي الله عنها بعد صلاة المغرب به، وأتينا مكة والحرم الشريف للطواف والسعي إلى أن قضينا ذلك في النصف الأخير من ليلة يوم الاثنين وهو خامس يوم النحر ثم ودعناه ساعتئذ وخرجنا وانصرفنا، قد كمل لنا الحج والعمرة والحمد لله رب العالمين وحين وجب طواف الوداع وتعين العزم على الإزماع، ودعنا البيت لحرام، والدموع تستوقف القطار، وتستوكف الأمطار وقلبي لا يطيق وداعاً ولا تملك حبته انتزاعا وسرت وأنا أكفكف العبرات وأنشد هذه الأبيات:

أيا شعب مكة نومي حرام ... متى قوضت عن رباك الخيام

ألفناك ألف الرضيع الرضاع ... وقد يؤلمن الرضيع الفطام

سأبكيك ما بكت الثاكلات ... وهيهات يبرد مني أوام

وأحنو إليك حنين النياق ... لهن بأكناف نجد غرام

أيا ساكنين الحمى هي يعود ... لنا بعد وقع الشتات التئام

عليكم وأن شط مني المزار ... سلام وجهد المقل السلام

ولما استقلت نجائب الرفاق وتهادينا تحف الأشواق، وتشاكينا روعة الفراق، وأخذنا نسري ونسير ليلا ونهارا، ونجذب بالنجب الفيافي إشراقا وأسحاراً، وتغيب عنا الشموس والأقمار فنتخذ من السرج والمشاعل شموسا وأقماراً ونقطع مهامه ينقطع فيها الرفيق عن الرفيق ونسلك مسالك تارة في الاتساع وتارة في الضيق إلى أن وصلنا إلى رأس) وادي العقيق (وتراءت لنا بعد البعاد أعلام ذلك الفريق، وهناك أنشدت الأصحاب الحضرين ما أنشدني تجاه لكعبة المشرفة لوالده شيخنا جمال الدين أبو إسحاق إبراهيم بن شهاب الدين أبي الثناء محمود ابن سليمان الحلبي وهي قصيدة ضربت في الإبداع بسهم مصيب وربت من البيان في روض يانع ومرعى خصيب ونصها:

وصلنا السرى وهجرنا الديارا ... وجئناك نطوي إليك القفارا

أتيناك نحدو البكا والركابا ... ونبعث أثر القطار القطارا

إذا أخذت هذه في الربى ... صعودا أبى ذلك إلا انحدارا

وإن فاض ماء لفرط الحنين ... ورجع حادي السرى عاد نارا

كأنا به وهو يجي دما ... وقوف على الخيف نرمي الجمارا

أتيناك سعيا ننادي البدارا ... إلى سيد المرسلين البدارا

إلى أشرف الخلق في محتد ... وأحمي جوارا وأعلى نجارا

إلى من به لله أسرى إليه ... وما زاغ ناظره حين زارا

لما نزعنا شعار الرقاد ... لبسنا الدجى وادعنا النهارا

نميل من الشوق فوق الرحال ... كأنا سكارى ولسنا سكارى

نجافي عن الطيف أجفاننا ... فلا نطعم النوم الأغرارا

ونسري مع الشوق أنى سرى ... ونتبع حادي السرى حيث سارا

ونسئل والدار تدنو بنا ... عن القرب في كل يوم مرارا

وما ذاك أنا سئمنا السرى ... ولكن دنونا فزدنا انتظارا

إذا لبرق عارضنا موهنا ... حسبنا سنى طيبة قد أنارا

فنفري بأدرع تلك النياق ... أديم الفلا غدوة وابتكارا

ونرمي بهن صدور الفجاج ... كانا نشن عليها مغارا

إذا رقصت في الفلاة المطى ... جعلنا الدموع عليها نثارا

تسابق أرجلها في السرى ... يديها وتشكو اليمين اليسارا

ونجمع بين السرى والمسير ... ونجفو الكرى ونعاف القرار

وكيف القرار إلى أن نراك ... وتدنى المطى إليك المزارا

من كان يأمل منك الدنو ... أيملك دون اللقاء اصطبارا

ترى تنظر العين هذا البشير ... يريني على البعد تلك الديارا

لأعطيه روحي سرورا بها ... وأوطيه طرفي وخدي اعتذارا

<<  <   >  >>