للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

أحسن ما في الدهر عمومه النوائب، وخصوصه بالرغائب، فهو يدعو الجفلى إذا أساء، ويختص بالنعمة الرؤساء، فليفكر الشامت، فإن أفلت فله أن يشمت، ولينظر الإنسان في الدهر وصروفه، والموت وصنوفه، ومن فاتحة أمره، إلى خاتمة عمره، أيجد لنفسه أثراً في نفسه؟ أو لتدبيره عوناً على تصويره؟ أم لعمله تقديماً لأمله، أم لحيله تأخيراً لأجله؟ كلا! بل هو العبد {لم يكن شيئاً مذكوراً} ، خلق مقهوراً، ورزق مقدوراً، فهو يحيا جبراً، ويهلك صبراً، وليتأمل المرء كيف كان قبلاً، وإن كان العدم أصلاً، والوجود فضلاً، فليطم الموت عدلاً، فالعاقل من رقع جوانب الدهر ما أساء بما سر، ليذهب ما نفع بما ضر فإن أحب ألا يحزن فلينظر يمنة، فهل يرى إلا محنة ثم ليعطف يسرة، فهل يرى إلا حسرة؟ ومثل سيدي أطال الله بقاءه من نظر هذه الأسرار وعرف هذه الدار، فأعد لنعيمها صدراً لا يملؤه فرحاً، ولبؤسها قلباً لا يطير ترحاً، وصحب الدهر برأي من يرى أن للمتعة رداً، وللأمور مدى، ولقد نعي إليّ أبو قبيصة قدس الله روحه، ونور ضريحه فعرضت علي آمالي قعوداً، وأمانيّ سوداً، وبكيت [ولكن] السخي جوده بما يملك، وضحكت، وشر الشدائد ما يضحك، وعضضت الإصبع حتى أفنيته. وذممت الموت حتى تمنيته، والموت أطال الله بقاء الشيخ الرئيس خطب عظم حتى هان، وقد خشن حتى لان، ونكر حتى قد عمَّ وعاد عرفاً، والدنيا قد تنكرت حتى صار الموت أخف خطوبها، وخبثت حتى صار أقلَّ عيوبها، ولعل هذا السهم آخر ما في كنانتها، وأنكى ما في خزانتها، ونحن معاشر التبع نتعلم الأدب من أخلاقه، والفضل من أفعاله، فلا نحدوه على الجميل وهو الصبر، ولا نرغبه في الجزيل وهو الأجر، فلير فيهما رأيه إن شاء الله تعالى.

وله إلى بعض إخوانه جواباً عن كتاب يهنئه بمرض أبي بكر الخوارزمي: الحر أطال الله بقاءك، لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإن وجدت فهي عواري، وأن محن الأيام وإن مطلت تستنقد، وإن لم تصب فكأن قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، فالشامت إن أفلت فليس يفوت، وإن لم يمت فسيموت، وما أقبح الشماتة، بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لفظة، وعقيب كل لحظة?! والدهر غرثان طعمه الأخيار، وظمآن شربه الأعمار، فهل يشمت المرء بأنياب آكله؟ أم يسر العاقل بسلاح قاتله؟ هذا الفاضل شفاه الله وإن ظاهرنا بالعداوة قليلاً، فقد باطناه وداً جميلاً والحر عند الحمية لا يصطاد، لكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد، فلا يتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتفجع لمرضته وقاه الله المكروه، ووقاني سماع المحذور فيه، بمنه وحوله ولطفه وكرمه.

وهذا ضد قول الخوارزمي، وقد بلغه موت بعض أعدائه: فلان قبض، وأستغفر الله فإنما يقبض الأقوام، بل نفق كما تنفق الأنعام، فالحمد لله الذي قصر خطوة أجله، وختم عمره بسوء عمله، وأبقى بعده من كان يرجو أن يموت قبله: (شعر) :

وإنَّ بقاءَ المرءِ بعد عدوِّه ... ولو ساعةً من عمره لكثير

وكانت بين الخوارزمي والبديع منافرة ومناظرة بكته فيها وأسكته البديع، وقد ذكر جميع ما جرى بينهما فقال: أول الأمر مع الخوارزمي أنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور داراً، والأجواد السادة جواراً، لا جرم أنا حططنا بها الرحل، ومددنا عليها الطنب، وقديماً كنا نسمع بحديث هذا الفاضل منتشوقه، ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، أخرج لنا في العشرة عن القشرة، [وفي المودة عن الجلدة] ، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الآداب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع:

أجارتنا إنّا غريبان هاهنا ... وكل غريبٍ للغريبِ نسيبُ

فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في الطريق اتفاق، ولا يوجبه استحقاق، من بزة بزوها، وفضة فضوها، وذهب ذهبوا به، ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم، بل إطلاعه الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره، هذا بعد رقعة قدمناها، وأحوال أنس نظمناها.

<<  <   >  >>