فقال لها: أحسنت يا جارية فمن أين لك هذا؟ قال: والله ما قصدت الغناء بهذا الشعر، فلما ابتليت به وعلمت بزلتي فيه غيرته على ما قلت.
٤٧ - وحكي أن المعتمد اصطبح يوماً واقتراح أن يغني بشعر أبي نواس:
يا كثيرَ النَّوحِ في الدمنِ ... لا عليها بلْ على السَّكنِ
سنَّة العشَّاقِ واحدةٌ ... فإذا أحببتَ فاستكنِ
فلم يزل يغني به يومه، ثم اشتكى جوفه ومات في ليلته.
٤٨ - وحدثني أبو لفتح منصور بن محمد بن المقدم الأصفهاني قال: كان أبو الفتح، ابن ابن العميد يشرب على مجلس قد أعجب به، وأغاني قد اجتمعت، وسر سروراً كثيراً، طرب طرباً زائداً، وجرى على لسانه عمل أبيات:
دعوتُ المنى ودعوتُ العلا ... فلّما أجابا دعوتُ القدحْ
وقلتُ لأيامِ شرحٍ الشبابِ ... إليَّ فهذا أوان المرحْ
إذا بلغَ المرءُ غاياته ... فليس له بعدها مقترحْ
وتقدم إلى المغنين بتلحينه وألا يغني بقية ليلته إلا به، ففعل ذاك! قال الحاكي: فتطير جماعة الحاضرين عليه ما جرى على لسانه، ونهض من المجلس، وأم أن يغطى ولا يشوش، ليركب إلى دار فخر الدولة ويعود إلى حاله، وتقدم إلينا بانتظاره، وركب فقبض عليه فخر الدولة، وهربنا من داره، وكان ذاك آخر العهد به.
٤٩ - وحكى الأصمعي قال: دخلت على الرشيد يوماً وهو ينظر في كتاب ودموعه تسيل على خده، فلما بصر بي قال: أرأيت ما كان مني؟ قلت: نعم، قال: أما إنه ليس لأمر الدنيا، ثم رمى إلي بالكتاب، فإذا فيه أبيات لأبي العتاهية إسماعيل بن أبي القاسم وهي:
هلْ أنتَ معتبرٌ بمنْ خربتْ ... منهُ غداةَ مضى دساكرهُ
ويمنْ أذلَّ الدَّهر مصرعه ... فتبرأتْ منهُ عساكرهُ
ويمنْ خلتْ منه أسرَّته ... وبمن وهتْ منه منابرهُ
ابن الملوكُ وأين عزُّهم ... صاروا مصيراً أنتَ صائرهُ
يا مؤثرَ الدَّنيا للذتهِ ... والمستعدَّ لمنْ يفاخرهُ
نلْ ما بدا لك أن ْ تناوله ... يوماً فإنَّ الموتَ آخرهُ
فلما قرأتها قال: والله يا أصمعي لكأني أخاطب بهذا الشعر وحدي دون الخلق! فقلت: دع هذا يا أمير المؤمنين فإنه استشعار لا يقطع به ولا يعول عليه، فو الله ما لبث بعد ذلك إلا شهراً (واحداً) ثم مات.
٥٠ - وحدث يقطين قال: إني لواقف على رأس المهدي إذا أغفى، فانتبه فزعاً وقال: علي بالشيخ! فقلت: أعيذك بالله اأمير المؤمنين، فقال: وقف علي الساعة وأنا نائم شيخ فقال:
كأنَّي بهذا القصر قد بادَ أهلهُ ... وأقفرَ منه أنسه وشواكله
وصار عميدَ القومِ من بعدِ نعمةٍ ... إلى جدثٍ تحثى عليه جنادلهْ
ولم يبقَ إلاَّ ذكرهُ وحديثهُ ... تنادي عيهِ بالعويلِ حلائلهْ
قال: فما مضى عليه إلا أيام حتى مات.
٥١ - وروي عن عبد الرحمن بن عفيف المروزي قال: حدثني أبي قال: وجدنا على باب علي بن عيسى بن ماهان، وهو الذي سعى بالبرامكة مع من سعى حتى هلكوا بيتين من الشعر لا يعلم من كتبهما:
إنَّ المساكين بني برمكٍ ... صبتْ عليهم غيرُ الدَّهرِ
إنَّ لنا في أمرهم عبرةً ... فليعتبر صاحبُ ذا القصرِ
فلم تبعد نبكته، وكانت قريبة من نكبة البرامكة.
٥٢ - وحدث سليمان بن أبي شيخ قال: بلغني أن جعفر بن يحيى البرمكي في آخر أيامهم أراد الركوب إلى دار الرشيد يوماً فدعا باصطرلاب ليختار وقتاً يركب فه، وكان جالساً إلى دجلة، فمر رجل في سميرية وهو لا يرى جعفراً ولا يعرفهن ولا يدري ما يصنع، فأنشد:
يدبرُ بالنجومِ وليسَ دري ... وربَّ النجمِ يفعلُ ما يريدُ
فضرب جعفر بالاصطرلاب الأرض، وركب وقيذاً.
٥٣ - وحكي أن أبا عبد الله بن الجصاص كان جالساً يحادث المقتدر بالله، فنام، فقال له المقتدر هوذا تنام يا أبا عبد الله! فقال: تحت داري كلاب ما يدعوني أنام الليل، فقال له: تقدم إلى الغلمان بطردهم فقال: يا أمير المؤمنين هم شيء يطاقون، والله إن كل كلب مثلي ومثلك كرتين، فضحك المقتدر وقال: بل مثلك وحدك! واستيقظ ابن الجصاص فخجل واعتذر!.