للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

٥٤ - وكأن رجل يؤاكل صديقاً له، فدق إنسان الباب، فقال صاحب الطعام، من ذا الكشخان، الآخر؟ فنهض صديقه وقال: والله لا آكلتك أبداً، فخجل وحلف "أن لساني هفا وأنك أولى من عفا"، فلم يرجع عن أنه له عني وعنه كنى، وانصرف.

٥٥ - وكان جماعة يأكلون سمكة مشوية، ففرغوا من جنبها وقبولها إلى الجنب الآخر، فسأل سائل على الباب، فأراد صاحب السمكة أن يرد عليه فقال: قد أقلبوها، فرفعت الجماعة أيديها، ونهضت، وخجل الرجل وحلف لهم أنه ما عنى ما وقع لهم وعرض بخاطرهم، بل سهو بدر به لسانه، فلم يقيموا ولا تمموا أكلهم، وخرجوا يبخلونه واستحيا منهم كل وقت يلقونه!.

٥٦ - وذكر حماد بن إسحق عن أبي بكر بن عياش قال: كان بالكوفة امرأة لا زوج د عسر عله المعاش، فقالت له: لو خرجت فضربت في البلاد وطلبت من فضل الله تعالى رجوت أن ترزق شيئاً، فخرج إلى الشام فكسب ثلاثمائة درهم فاشترى بها ناقة فارهةً وركبها قاصداً إلى الكوفة، وكانت زعرة فأضجرته واغتاظ منها ومن زوجته وإخراجه وتقطيعه بأسفاره، فبدر لسانه فيها بأن حلف بطلاق امرأته أنه يبيعها يوم يدخل الكوفة بدرهم! وسكن من حوده فندم أشد ندامة واغتم أعزم غم، وقدم الكوفة فقالت له زوجته: أي شيء جئت به معك؟ ورأته مغتماً، قال: لا شيء، فقالت له: فهذه الناقة لمن؟ قال: لا أدري لمن تحصل له، وحدثها بحديثه وما جنى عليه حرده وجره لسانه، فقالت له: أنا أحتال لك حتى لا تخنث ولا تخيب، وعمدت إلى سنور فأخذتها وعلقتها في عنق الناقة وقالت: أدخلها السوق وناد عليها: من يشتري هذه السنور بثلاثمائة درهم والناقة بدرهم واحد، ولا أفرق بينهما؟ فدخل السوق وفعل ذلك، فجاء إعرابي يجور حول الناقة وجعل يقول: ما اسمك ما أفرهك ما أحسنك ما أرخصك، لولا هذا المشارك الذي في عنقك.

٥٧ - حدثني أبو سعد محمد بن علي ن الحسن المعروف بابن المانداي قل: حدثني الجهرمي الشاعر قال: كان السقطي الصوف من أهل المروءات، وقد آلى على نفسه أنه لا يأكل طعاماً عند أحدٍ، فخلوت به يوماً وسألته عن العلة في ذاك فقال: بكرت إلى صديق لي في حاجة وعدن بها، ودخلت إليه وبين يديه غداؤه، فمددت يدي وأكلت، ووقف على الباب سائل، وأراد أن يقول له: لطف الله بك، فقال: قد كسر آخر فقلتُ: بعد ما مسه فخجل واستحيا وقال: ما قصدت ما وقع لك، فقلت: خذ في غير هذان ولم آكل معه، ونهض عن طعامه حياءً مما بدر من كلامه، وجعلت في نفسي ألا أكل طعام أحد بعدها.

٥٨ - وحدثني الوزير فخر الدولة أبو نصر بن جهير قال: كان سليمان ابن فهد كاب قرواش بن المقلد بالموصل حديداً سوداوياً على الفضل الذي كان فيه، واتفق أن كان جالساً وإلى جانبه أبو طاهر النصراني الكاتب ابن كعب، وله المنزلة الكبيرة وفي وقته المكانة الجليلة في بلده، وقد خدم شرف الدولة باب الفوراس ابن الملك عضد الدولة بن بويه والمسيب جد قرواش، فقال له سليمان مقبلاً على الحاضين على طريق الانبساط والاسترسال، وهذه أخت ابن كعب قحبة مشهورة كما تعلمون، وابن عرقل ممن تحبه ويفعل بها كل يوم، ولا يغبها ولا تغبه، وغيره وغيره، فإذا راسلتها واستدعيتها تمنعن وتحكمت وتبطأت وتأخرت! ثم التفت فرأى ابن كعب إلى جانبه، فاستحيا ونهض، وقال: هذا هو الجنون الذي لا دواء له! ودخل إلى بعض حجره، وانصرف الحاضرون خجلين ن ابن كعب وسماع ذلك، وبقي كعب جالساً حائراً لا تساعده رجله على النهوض والانصراف، وشاهد حاجب سليمان حاله، فجاءه وأخذ بيده وقال: ينهض سيدنا إلى جاره، فقد جرى ما فيه الثواب، وإن كأن من محن الدهر الصعاب، فقام يجر نفسه وانصرف.

٥٩ - وحدثني أيضاً قال: كان البرقعيدي يوماً جالساً عند بعض أصدقائه بالموصل، فأنشد بعض الحاضرين:

وليلٍ كوجه البرقعيدي ظلمةً ... وبردِ أغانيه وطولِ قرونهِ

فقال له: هأنا قاعدا يا سخي العين! فاستحيا المنشد وضحك الحاضرون.

٦٠ - وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: كان النابغ والهائم بحضرة عضد الدولة يوماً يلعبان بالشطرنج، فغاصا في الفكر لدستهما، فأنشد أحدهما:

وأبو القاسمِ يروي شعرنا ... حسنٌّ ذاكَ ويأتي بالخبرْ

<<  <   >  >>