للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

١١٣ - وقيل لما قلد السفاح يحي أخاه الموصل ونواحيها، وكان مقداماً ناقص العقل، متخلفاً في جميع أمورهن وكان يفعل أشياء غير مشاكلة لشرفه وأبوته، فوجه معه السفاح بجماعة مع مشايخ الدعوة، ويقومون أمره ويسددونه، ويكاتبون الناس عنه، وكان يحيى مشتهراً بالشراب وحب المخنثين، لا يختار عليهم غيرهم، فتقدم إلى رجل بالموصل حاذقٍ بصنعة الطبول باتخاذ عدد منها، واستعمله على تقديم عملها، فتهيأ أن فرغ من واد في يوم جمعة عند النداء بالأذان، فصار به إلى يحيى في دار الإمارة وهي بقرب الجامع، وبينها وبين الجامع باب في ممر طويل قد فرش بلاط، فصادف يحيى وقد ركب بغلة محرمة، وهو ماض في الممر إلى الجامع، وعليه سواده وشايته فقال له: ابن تلك الحاجة؟ فقال: معي منها واحد فقال: هاته، فلما رآه استفزه السرور به إلى أن جعله في عنقه، ووقع عليه بيده ليذوقه بزعمه ويعرف صفاء صوته، فساعة سمعت البغلة سوته حملت به نحو الجامع، ومع المكبرون وقع حافر البغلة على ذلك البلاط فرفعوا الستر، واقتحمت به البغلة إلى وسط الناس على حالة القبيحة، فنظر الناس منه إلى منظر لم يكن في الإسلام مثله، فمن بين متعجب وضاحك وقاذف، وأخذه الحصى من جميع المسجد، فما أفلت إلا بحشاشة نفسه! وشغل الناس به عن صلاتهم، وكتب إلى السفاح بذلك فاستعظمه وصرفه ولم يستعن به مدة أيامه.

١١٤ - وحدث أبو العباس المبرد قال: دخل خالد بن صفوان علي أبي العباس السفاح، فوجده خالياً، فقال: يا أمير المؤمنين أنا أترقب منذ تقلدت الخلافة أن أجدك خالياً، فألقي إليك ما أريده، قال: فاذكر حاجتك، قال: يا أمير المؤمنين إني فكرت في أمرك فلم أرد ذا حالة في مثل قدرك أقل استماعاً بالنساء ولا أضيق فيهن عيشاً منك، لأنك قد ملكت على نفسك امرأة واحدة، واقتصرت عليه، فإن مرضت مرضت، وإن غابت غبت، وإن غضبت حرمت! إنما التلذذ باستطراف الجواري ومعرفة اختلاف أحوالهن والاستمتاع بهن، فلو رأيت يا أمير المؤمنين الطويلة البيضاء والسمراء اللفاء والصفراء العجزاء والغنجة الكحلا والمولدات من المدنيات والملاح من القندهاريات، ذوات الألسن العذبة والقدود المهفهفة والأصداغ المزرفنة والذي المحققة! وجعل خالد بعذوبة لفظه واقتدار تعلى وصفه يزيد في قوله، فلما فرع من كلامه قال له: واله يا خالد ما سلك شمعي قط كلام أحن من هذا، فأعد علي قولك، فقد حرك مني ساكناً، فأعاد سمعي قط كلام أحسن من هذا! فأعد علي قولك، وبقي السفاح مفكراً عامة نهاره إذ دخلت عليه أم سلمة المخزومية زوجته، فلكما رأته دائم التفكير كثير السهو قليل النشاط ارتعت له؟ فقال لها: لم يكن من ذلك شي، قالت: فما قصتك؟ فجعل يوري عنها، فلم تزل به حتى حدثه، قال: فما قلت لابن الفاعلة؟ قال لها: سبحان الله؟ رجل نصحني تسبينه، فخرجت من عنده متميزة غضباً، وأرسلت إلى خالد بجماعة من مواليها وغلمانها العجم ومعهم الكافر كوبات، وأمرتهم ألا يتركوا فيه عضواً صحيحاً، قال خالد: وانصرفت وأنا على غاية السرور بما رأيت السفاح عليه من إعجابه بما ألقيته إليه، فقعدت على بابي أتوقع صلته، فلم أشعر إلا بالغلمان، وتحققت مجيئهم بالجائزة، حتى وقفوا على رأسي، وسألوني غني فقلت: هأنذا، فبقي بعضهم بهراوته فأهوى بها إلي، فوثبت ودخلت داري، وغلقت بابي واستترت وعرفت هفوت وزلتي في فعلتي وكلمتي، وعلمت من حيث أتيت، ومكثت أياماً مستتراً، فلم أشعر ذات يوم إلى بجماعة من خدم السفاح قد هجموا علي فقالوا: أجب أمير المؤمنين، فأيقنت بالهلكة، فركبت معهم وأنا بلا دم، فلما دخلت عليه وسلمت فرد علي سكنت نفسي بعض السكون، وأومأ إلي بالجلوس فجلست، ونظرت فإذا خلف ظهره باب عليه ستور قد أرخيت، وأحسست بحركة خلفه، فقال لي: يا خالد لم أرك منذ أيام فاعتللت عليه، فقال لي: ويحك إنك وصفت لي آخر يوم كنت عندي فيه من أمر النسا والجواري ما لم يخرق سمعي قط مثله، فأعده عليَّ!.

<<  <   >  >>