للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

٢١٩ - وحكى محمد بن أيوب الهاشمي أن اسحق بن العباس بن محمد كان والياً على البصرة، وكان مزاحاً عبيثاً، فلاعب الصباح بن عبد العزيز الأشعري بالنرد، في أمره ورضاه، فقمره اسحق، فقال له الصباح: احتكم أيها الأمير وأجمل، قال: أصفعك عشراً جياداً! قال: أبو الفداء أعزك الله! قال: والله لو أعطيتني جميع ما تملك ما قبلته، ثم التفت إلى غلام أسود كأنه شيطان فقال له: اصفع وجود، فصفعه عشراً كاد أن يعميه! ثم لاعبه وغلبه وفعل به مثل فعله الأول، ثم عاود اللعب فغلبه الصباح وقال له: قمرتني أيها الأمير نوبيتين فلم تحسن الصنيع، ولم تجمل الفعل، ولم ترجع عن الصفع الوجيع! قال: فما تريد؟ قال: صفعك كما صفعت، ومقابلتي لك بمثل ما فعلت! قال: ويلك، تفضحني، ويبلغ أمير المؤمنين خبرنا فيكون سبب عزلتي ونكبتي وزوال نعمي! قال: إذن لا أبالي والله! قال: أو أدفع إليك خليفتي عبد السميع فتصفعه عشرا، قال: لا أفعل، قال: وأعطيك فاضل الصرف فيما بين الصفع مائة دينار؟ قال: هات على بركة الله تعالى ... فأحضر عبد السميع فجاء كالفيل، فقال له: اجلس، وقال له: ما أشك في مودتك إياي وموالاتك لي، قال: أنا عبد الأمير وخادمه، قال: ما أعرفني بذاك منك وفيك! اعلم أن هذا الفاسق الأحمق الجاهل لاعبني بالنرد .. وقص عليه القصة إلى ما انتهى الأمر بينهما إليه ووقف الحكم عليه، فقال عبد السميع: أعيذ الأمير بالله، ما ظننت أنه ينزلني هذه المنزلة ويحلني في هذه الرتبة! قال: صدقت والله ولا ظننت أنا أن مثل هذا يتفق ويكون، ولا خطر لي ببال، لكنها بلية أوقعت نفسي فيها، وزلة ما كان لي مثلها قبلها، وأحب أن تنقذني منها وتحتمل المكروه عني فيها، فأقدني وأنقذني منها! فأقبل عبد السميع على الصباح وقال له: تأمر أعزك الله أن ألطم يسيرا عوض الصفع؟ فقال له: أنت والله أحمق! إما أن تمكنني من قفاك وإلا قمت إلى قفا الأمير أعزه الله! فقال إسحق بن العباس لعبد السميع: دع هذا وأمثاله عنك، فهو أنكد وألج وأشأم من أن يرجع أو يحسن أو يجمل! فقال الصباح: الأمير بذاك بدأ، وأمر به وبمثله! فقال عبد السميع: اصفع لا بارك الله لك وفيك، فالتفت الصباح إلى عبد له أسود كأنه الجمل الهائج فقال: اصفع وجود وبالغ وخذ بثأر مولاك ولا تراقب! فصفع عبد السميع عشر صفعات كاد رأسه يقع منها، وقال له الأمير بعد ذلك: يعز علي والله ما نالك ولحقك، ارجع إلى عملك! وكان يخلفه على الشرطة وجميع أموره ولا ينفذ لإسحق أمر إلا على يده، وقام يجر رجليه؛ وعاودا اللعب، فقمره الصباح ثانيا، واتفقا على ما اتفقا عليه أولا، واستدعي عبد السميع، فتغافل واحتج، فلم ينفعه، وجاء مكروها وهو وجل خائف، فقال له إسحق بن العباس: اعلم أن هذا الأحمق قد قمرني ثانيا واحتكم مثل حكمه أولا! فقال: اعزلني أيها الأمير، فلا رأي لي في خدمتك، فقال له: أعني هذه المرة الواحدة، وخلصني من هذا الجاهل القليل العقل والمروءة، العادم المعرفة والدراية! قال:"إن الله وإنا إليه راجعون" فقال الصباح لعبده: اصفع وجود صفعا ينثر الشعر من اللحية، ويحلق الشعر من القفا! فقال: لا كرامة ولا عزازة، اصفع يا هذا صفع المداعبة والإخوان، لاصفع العقوبة والسلطان، وأجمل فيما تفعل، فعسى أن تقع لك حاجة فأجازيك بالحسنى! فقال له مولاه: اصفع الرقيع، الصفع الوجيع، ولا تصغ إلى ما لم يصغ إليه من قتل مولاك! فقال إسحق: استعن بالله واجر على عادتك في طاعتك، فقال: لاحول ولاقوة إلا بالله! وجثا على ركبتيه، وصفعه العبد صفعا زعزع به أركان رأسه، فقال: فبكى وانتحب مما لحقه، فقال له إسحق: يعز والله علي، ارجع إلى عملك أعزك الله! فقال: لعن الله هذا العمل ويوما توليته فيه! لي إليك حاجة! قال: حوائجك عندي كلها مقضية! قال: لاتلاعب هذا الشئوم دفعة أخرى فإنه ألعب منك! فقال: اسكت، فوالله إني لأرجو أن تتولى منه ما تولى منك، وأن تشتفي منه كما اشتفى منك! قال: ما أريد ذاك أيها الأمير، قال: فما ألاعبه كما تشتهي؛ ونهض يجر رجليه خزيان جيران، وتقدم إلى صاحبه بأن يقف هناك وينظر مل يكون من الأمير والصباح، ويعلمه، وتقدم بأن يسرج له فرس، وقعد ينتظر الغلام، فجاءه وأعلمه بأنهما لعبا، وأن الصباح قمر إسحق، وأنه تقدم باستدعائه .. فركب الفرس وهرب على وجهه يقول: لا والله لا أطيع ولا أجيب ولا أعمل له

<<  <   >  >>