للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

٢٤٢ - وحدث إبراهيم بن المهدي قال: دخل الفضل بن مروان على المعتصم بالله ومعه كساء طبري في غاية الحسن فعرضه عليه، واستحسنه المعتصم وأعجب به وقال: ما رأيت مثله! وأرانيه، فقال الفضل لي: كم قيمته؟ قلت: ليس التقويم من عملي وإنما يرجع فيه إلى الباعة! فقال: فبكم كنت تبتاعه لو حمل إليك؟ قلت: بمائة دينار، فقال: لأجل هذا يا أمير المؤمنين لا تفي ضياع عملك بنفقاته، ولا تبين صلاتك له في حاله! وحقك يا أمير المؤمنين لقد صمدت لصاحبه منذ صليت الظهر إلى أن غربت الشمس أراوضه في ثمنه، لم أتشاغل بغيره حتى ابتعته منه بثلاثين ديناراً! فقلت: اتق الله يا أمير المؤمنين فيما قلدك من أمور عباده، فقد أقر الفضل بين يديك بأنه لم يعمل عملاً وهو وزيرك الذي تجري على يده أمور مملكتك ورعيتك وأموالك إلا لمكاس في ثمن كساء بثلاثين ديناراً، فلو ابتاعه بألف دينار أو بعشرة آلاف دينار ما كان أنفع وأعود، وكان شغله بأمور الدين والدنيا أجدى وأولى من توفير سبعين ديناراً في ثمن كساء! وما أدفع حرمة الفضل بك وحقه عليك ومعرفته بالأسعار وقيم الأعلاق، فوفره على ذلك واشغله به، واطلب لوزارتك ودواوينك من هو أقوم بها منه وأكفى فيها! فقدح هذا القول فيه، وأثر في قلب المعتصم، وحط منزلته عنده.

٢٤٣ - وحدث ابن عبد السلام الهاشمي قال: كنت في مجلس الفضل ابن مروان إذ دخل عليه إعرابي فصيح اللسان، يتظلم من بعض عماله، فصدف بوجهه عنه وزبره، فوقف ساعة متحيراً واجماً لا يحير جواباً ثم قال: أياستني من عدلك، فاسمع مني واصنع ما بدا لك، ثم أنشده:

تجبرتَ يا فضلُ بن مروانَ فانتظر ... فقبلكَ كانَ الفضلُ والفضلُ والفضلُ

ثلاثةُ أملاكِ مضوا لسبيلهم ... أبادهمُ التغيرُ والموتُ والقتلُ

فإنك قد أصبحتَ في الناسِ ظالماً ... ستودي كما أودى الثلاثةُ من قبلُ

ثم ولى منصرفاً، فقال الفضل: ما عني بقوله؟ فقيل له: أراد الفضل بن يحيى بن خالد، والفضل بن سهل، والفضل بن الربيع؛ فتغير وجهه وامتقع لونه، وبان غضبه وغيظه، وتصبر، ولم يرد الأعرابي، ولا أمر بإنصافه، ولم يكن بين ذلك وبين القبض على الفضل إلا أيام يسيرة.

٢٤٤ - وحدث أبو العباس بن عمار قال: حدثني سعيد بن فضالة أنه عرض على الفضل بن مروان عند وزارته للمعتصم بالله مجمعاً عمله خليل الصايغ للخليفة، فجعل منه المقاريض وآلات المجامع حتى أخرج مبرداً، وقال: ما هذا؟ قلت: مبرد، قال: تبرد به ماذا؟ قلت: إذا قلمت الأظفار بردت بها ليزول ما فيها من شعت! قال: وأنا لا أحسن إذا قلمت أظفاري أن أبلها بريقي، وأحكها بالحائط، وأستغني بذاك عن المبرد! وفعل ذاك بحضرتنا وأراناه.

٢٤٥ - حدث عبد الله بن سليمان عن الحسن بن وهب قال: قال المعتصم بالله يوماً لأحمد بن عمار، وهو يتقلد العرض عليه: أين الحسن اين وهب؟ فقال له: في منزله، فقال: لم يأخذ في كل شهر ألفي درهم ولا يعمل بها؟ أحضره ووله كتب الكتب الصادرة عنا، فإنه حسن الخط جيد البلاغة، فأحضرني وعرفني ما جرى، واستعملني، فتمكنت منه وغلبت عليه، وملكت الإيراد والإصدار عنه، وكان يجيئني أكثر من مضي إليه، فلم أشعر يوماً وأنا في منزلي إلا به وقد دخل علي، وعليه دراعة وجبة وعمامة من وشي، وقد انصرف من دار المعتصم، فسلك الطريق بهذا الزي إلى داري، فقمت إليه متلقياً، وعلمت أ، مثل تلك الثياب لا تكون إلا خلعة، وجلس مغموماً مهموماً، وقال لي: ما الكلأ؟ فقلت: النبت الذي يكثر في الصحراء عند توالي الأمطار؛ ثم قلت به: أرى أمراً ساراً وأراك معه مفكراً واجماً؟ قال قرأت على أمير المؤمنين كتاب صاحب البريد بالبصرة يذكر فيه أن المطر اتصل فكثر الكلأ، فقال لي: ما الكلأ؟ قلت: لا أدري! فقال: أنالا أدري وكاتبي لا يدري! يا غلام اصفع! فصفعت ثلاثاً، ثم قال لي: امضِ إلى الحسن بن وهب فاسأله ما الكلأ وعرفنيه، فلما وليت من بين يديه قال لبعض أصحابه: سيظهر ما جرى عليه فيضعف جاهه ويقف أمره! وأمر بأن يخلع علي هذه الخلعة من خاص ثيابه ليزول بها غضاضة ما عوملت به، وجئتك كما ترى! فقلت: هبك بم تعرف الكلأ، وأما علمت أنه لا يكثر عند المطر إلا النبات!

<<  <   >  >>