٣٨٨ - وحدث علويه قال: كنت مع المأمون لما خرج إلى الشام، فدخلنا إلى دمشق وطفنا فيها، وجعل يطوف على صور بني أمية ويتتبع آثارهم، فدخل صحناً من صحونها فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله، وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستانٌ على أربع زواياه أربع سرواتٍ كأنها قصتْ بمقراضٍ من التفافها أحسن ما رأيت من السرو قداً وقدراً! فاستحسن ذلك وعزم على الصبوح، وقال: هاتوا إلي الساعة طعاماً خفيفاً، فأُتي ببزماوردٍ فأكله، ودعا بالشراب، وأقبل علي فقال: غنني ونشطني، فكأن الله عز وجل أنساني جميع ما أحفظه إلا هذا الصوت:
لو كان حولي بنو أمية لم ... ينطقْ رجالٌ أراهم نطقوا
فنظر إليَّ مغضباً وقال: عليك لعنة الله وعلى بني أمية، ويلك قلت لك سرني أم سؤني! ألم يكن لك وقت تمدح فيه بني أمية إلا هذا الوقتَ! فتجلدت عليه، وعلمت أني قد أخطأت فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية، هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلامٍ مملوك له، ويملك ثرثمائة ألف دينار وهبوها له سوى الضياع والخيل والرقيق، وأنا عندكم أموت جوعاً! فقال: ما وجدت شيئاً تذكرني به نفسك غير هذا؟ فقلت: هكذا حضرني حين حضرتهم! فقال: اعدل عن هذا وتنبه ى إرادتي، وغنِّ، فأنسيت كل شيء كان قد علق بحفظي إلا هذا الصوت:
الحينُ ساقَ إلى دمشقَ ولم أكن ... أرضى دمشقَ لأهلنا بلدا
فرماني بالقدح فأخطأني، وانكسر القدح وقال: قم عني إلى لعنة الله وحرِّ سقره! وقام فركب فكانت والله تلك الحال آخر عهدي به حتى مرض ومات.
٣٨٩ - وكان خالد بن عبد الله القسري قدم على هشام بن عبد الملك، فأخذ يصف له طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم، فصفق عمر ابن يزيد يده على يده الأخرى حتى سمع لها في الإيوان دوي، وقال لهشام: كذب والله يا أمير المؤمنين، ما أطاعت اليمانية ولا نصحت قط! أليسوا أعداءك وهم أصحاب يزيد بن المهلب وابن الأشعث، والله لا ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه، فاحذهم يا أمير المؤمنين! فظهر تقبل ذلك في وجه هشام، واضطغنها عليه خالد ابن عبد الله؛ وولي خالد العراق فلم يكن له هم إلا قتل عمر بن يزيد حتى قتله.
٣٩٠ - ومات ابن للفرزدق صغير، فصلى عليه ثم التفت إلى الناس فقال:
وما نحن إلا مثلهم غير أننا ... أقمنا قليلاً بعدهم وترحلوا
فمات بعد ذلك بأيام.
٣٩١ - وروى محمد بن موسى بن طلحة قال: قال أبو عبيدة: دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
فإن أبا موسى خليلُ محمدٍ ... وكفَّاه يمنى للهدى وشمالُها
فقال له ابن أبي بردة: هلكت والله يا أبا فراس! فقال: وكيف ذاك؟ قال: ذهب شعرك! أين مثل شعرك في سعيد بن العاص والعباس بن الوليد وفلان وفلانٍ، وأسمى قوماً .. فقال له: فجئني بأحساب مثل أحسابهم حتى أقول مثل ما قلت فيهم! فغضب بلال حتى أتى بطست وفيه ماء بارد، فوضع يده ورجليه فيه، ليذهب الغيظ عنه، وتبين الفرزدق غلطه فذهب عقله، وخاطبه جلساؤه في الفرزدق وقالوا له: لا تعجل عليه، فقد كفيت أمره، فإنه هم وصدى اليوم أو غدٍ، وأذهب عنك عار قتله! ففعل، ولم يحل على الفرزدق الحول حتى مات.
٣٩٢ - قال أبو عبيدة: كان خالد بن عبد الله القسري من أجبن الناس، فخرج إليه المغيرة بن سعيد فعرف ذلك وهو على المنبر بالكوفة، فدهش وتحير وقال: أطعموني ماء! فقال الكميت بن زيد فيه، ويمدح يوسف بن عمر الثقفي:
خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن ... كمن حصنُه فيه الرتاجُ المضببُ
وما خالدٌ يستطعمُ الماءَ فازعاً ... بعذلكَ والدعي إلى الموتِ ينعبُ
٣٩٣ - وحدث الصولي قال: حدثني أبو ذكوان قال: حدثني طماس قال: جاء ابن دنقش الحاجب إلى محمد بن عبد الملك برسالة من المعتصم يستحضره بها، فدخل يلبس ثيابه، ورأى ابن دنقش غلماناً لمحمد روقة، فقال وهو يظن أن محمداً بحيث لا يسمعه:
وعلى اللواطِ فلا تؤمنْ كاتباً ... إن اللواطَ سجيةُ الكتّابِ
فخرج إليه محمد، وقد لبس ثيابه، وقال له:
وكما اللواطُ سجية الكتابِ ... فكذا الخلاقُ سجيةُ الحجابِ
فخجل ابن دنقش واعتذر إليه، فقال له: إنما يقع الاعتذار لو لم يقع القصاص، فأما وقد كافأتك فلا!