٣٩٤ - وحدثني هرون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: جلس أبي يوماً للمظالم، فلما انقضى المجلس رأى رجلاً جالساً، فقال له: ألك حاجة؟ قال: تدنيني إليك فإني مظلوم، فأدناه فقال له: أنا مظلوم قد أعوزني الإنصاف! قال: من ظلمك؟ قال: أنت، ولست أصل إليك فأذكر حاجتي! قال: ومن يحجبك عني وقد ترى مجلسي مبذولاً؟ قال: يحجبني عنك هيبتي لك وخوفي منك وطول لسانك وفصاحتك واطراد حجتك! قال: ففيم ظلمتك؟ قال: ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك مني غضباً بغير ثمن، وإذا وجب خراجها أديته أنا في الديوان عنك لئلا يثبت لك اسم في الديوان بتصرفك فيها وملكك لها فيبطل ملكي، فوكيلك يأخذ غلتها وأنا أؤدي خراجها، وهذا ما لم يسمع مثله في الظلم! فقال له: هذا قول يحتاج إلى بينة وشهود وأشياء غير ذلك! فقال له: تؤمنني من غضبك حتى أجيب؟ قال: قد أمنتك! قال: البينة أطال الله بقاءك هم الشهود، والشهود هم البينة، وأشياء غير ذلك عي منك وحصر وظلم وتغطرس! فضحك منه وقال: صدقت والبلاء موكل بالمنطق، وإني لأرى فيك مصطنعاً! ووقع له برد ضيعته عليه، وبأن يطلق له كران حنطة وشعيراً ومائة دينار يستعين بها على عمارة الضيعة، وصيره بعد ذلك من أصحابه، واصطنعه لنفسه.
٣٩٥ - وذكر أبو الفرج الأصفهاني قال: كان عبد الله بن الحسن الأصفهاني يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل، وكتب إلى خالد بن يزيد ابن مزيد عن المعتصم:"إن أمير المؤمنين ينفخ منك في غير فحمٍ، ويخاطب امرأً غير ذي فهم" فقال محمد بن عبد الملك الزيات: هذا كلام ساقط سخيف جعل أمير المؤمنين ينفخ في الزق كأنه حداد! وأبطل الكتاب ولم ينفذه؛ ثم كتب من بعد محمد بن عبد الملك عن المعتصم إلى عبد الله بن طاهر:"وأنت تجري أمرك على الأربح فالأربح والأرجح فالأرجح، لا تسعى بنقصان ولا تميل برجحان" فقال عبد الله الأصفهاني: قد أظهر ابن الزيات من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته منت جارته بذكر ربح السلع ورجحان الميزان ونقصان الكيل والخسران من رأس المال! فضحك المعتصم وقال: ما اسرع ما انتصف الأصفهاني من ابن الزيات! وحقدها عليه ابن الزيات حتى نكبه.
٣٩٦ - ذكر إسحق بن ابراهيم عن معبد قال: استقدمني الوليد بن يزيد، فبينا أنا يوماً في بعض حمامات دمشق إذ دخل علي رجل له هيبة ومعه غلمان له، فأطلى واشتغل به أصحاب الحمام عن سائر الناس، فقلت: والله لئن لم اطلع هذا عل بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب، فاستدبرته حتى يراني ويسمع مني، ثم ترنمت، فالتفت إلى الغلمان وقال: قدموا إليه جميع ما هاهنا، فصار جميع ما كان بين يديه عندي، وأمر القوام بخدمتي فخدمت وأخرجت، وخرج، وسألني أن أصير إلى داره معه، ففعلت، ولم يدعْ من البر والإكرام شيئاً إلا أولانيه، ثم وضع النبيذ، فجعلت أغني له، ولا آتي بحسنٍ إلا وأتبعه ما هو أحس منه، وهو لا يرتاح لغنائي ولا يحفل بما يسمعه مني، فلما طال عليه أمري قال: يا غلمان، شيخنا شخنا، فأُتي بشيخٍ، فلما رآه هش به وأدناه منه، فأخذ الشيخ العود وغنى:
السلورُ: السمك الجرِّي بلغة أهل الشام فجعل صاحب المنزل أن يخرج من جلده طرباً، وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي، فما رأيت مثل ذلك اليوم غناء أضيع، وشيخاً أجهل.
٣٩٧ - اسماعيل بن يونس عن أبي هفان قال: حضرت يوماً مجلس بعض القواد الأتراك، وكانت له ستارة فنُصبت، فقال لها: غني لي صوت الخمار الأسود المليح! فلم ندْرِ ما أراد حتى غنت:
قل للمليحةِ في الخمار الأسودِ
ثم قال: غني: إني خربت وجئت أنتقله! فضحكت ثم قالت: كذا يشبهك! ولم ندْر ما أراد فغنت:
إن الخليط أجدَّ منتقله
٣٩٨ - أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كان جعفر بن المنصور ويعرف بابن الكردية يستخف مطيع بن إياس، وكان منقطعاً إليه وله منزلة حسنة، فذكر له مطيع حماد الرواية، وكان مطرحاً مجفوا في ايامهم، فقال له حماد دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية، ومالي عند هؤلاء خيرٌ! فأبى مطيعٌ إلا الذهاب به إليه، فاستعار سواداً وسيفاً ثم أتاه فدخل على جعفر فسلم وجلس، فقال له جعفر: أنشدني، قال لمن أيها الأمير؟ فقال: لجرير؛ قال حماد: فسلخ الله تعالى مني شعر جرير أجمع من قلبي إلا قوله: