للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- وفاة عبد اللَّه بن مسعود (١)

وممن توفي في هذه السنة عبد اللَّه بن مسعود بن غافل، وأمه أم عبد بنت عبدُود بن سوداء. أسلمت أيضاً وهاجرت. فهو صحابي ابن صحابية. أسلم قديماً قبل عمر بن الخطاب حين أسلم سعيد بن زيد (٢) وزوجته فاطمة بنت الخطاب (٣) ⦗١١٨⦘.

قال ابن مسعود يذكر سبب إسلامه:

"كنت غلاماً يافعاً في غنم لعقبة بن أبي معيط أرعاها، فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم ومعه أبو بكر. فقال: "يا غلام هل معك من لبن؟ " فقلت: نعم، ولكني مؤتمن. فقال: "ائتني بشاة لم ينز عليها الفحل". فأتيته بعناق أو جذعة. فاعتقلها رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، فجعل يمسح الضرع ويدعو حتى أنزلت، فأتاه أبو بكر بصحفة، فاحتلب فيها. ثم قال لأبي بكر: "اشرب". فشرب أبو بكر، ثم شرب النبي صلى اللَّه عليه وسلم بعده. ثم قال للضرع: "أقلص". فقلص، فعاد كما كان. ثم أتيته فقلت: يا رسول اللَّه علِّمني من هذا الكلام أو من هذا القرآن. فمسح رأسي وقال: "إنك غلام معلم" (٤) . قال: فلقد أخذت منه سبعين سورة ما نازعني فيها بشر".

وهو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.

اجتمع يوماً أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقالوا: واللَّه ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط!. فمن رجل يسمعهم؟ فقال عبد اللَّه بن مسعود: أنا. فقالوا: إنا نخشاهم عليك. إنما نريد رجلاً له عشيرة تمنعه من القوم إن أرادوه. فقال: دعوني فإن اللَّه سيمنعني. فغدا عبد اللَّه حتى أتى المقام في الضحى وقريش في أنديتها، فقال رافعاً صوته: (بسم اللَّه الرحمن الرحيم الرحمن {الرَّحْمَنُ عَلَّمَ القُرْآنَ} [الرحمن: ١ ٢] ) فاستقبلها، فقرأ بها، فتأملوا. فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد!؟ ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد فقاموا، فجعلوا يضربون في وجهه. وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء اللَّه أن يبلغ. ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا بوجهه. فقالوا: هذا الذي خشينا عليك. فقال: ما كان أعداء اللَّه قط أهون عليَّ منهم الآن. ولئن شئتم غاديتهم بمثلها غداً. قالوا: حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون.

ولما أسلم عبد اللَّه أخذه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إليه، وكان يخدمه فكان يدخل عليه ويلبسه نعله، ويمشي معه وأمامه ويستره إذا اغتسل، ويوقظه إذا نام.

وهاجر الهجرتين جميعاً إلى الحبشة، وإلى المدينة، وصلى إلى القبلتين، وشهد بدراً، وأُحداً، والخندق، وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد مع رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وشهد اليرموك بعد النبي صلى اللَّه عليه وسلم ⦗١١٩⦘.

وهو الذي أجهز على أبي جهل، وشهد له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بالجنة. وسيَّره عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه إلى الكوفة وكتب إلى أهلها: "إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد اللَّه بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما، وأطيعوا، واسمعوا قولهما. وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي". وليس بعد ذلك ثناء وتقدير.

ولما مرض عبد اللَّه عاده عثمان بن عفان فقال: ما تشتكي؟ قال: ذنوبي. قال: فما تشتهي؟ قال: رحمة اللَّه. قال: ألا آمر لك بطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني. قال: ألا آمر لك بعطاء؟ قال: لا حاجة لي فيه. قال: يكون لبناتك. قال: أتخشى على بناتي الفقر؟ إني أمرت بناتي أن يقرأن كل ليلة سورة الواقعة، إني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: "من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبداً" (٥) .

وفي أسد الغابة وتهذيب اللغات والأسماء أنه توفي سنة ٣٢ هـ. وكان عمره يوم توفي بضعاً وستين سنة.

وكان يعرف بصاحب سواد رسول اللَّه (٦) ، وسواكه ونعله. وكان عبد اللَّه يلبس رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم نعليه، ثم يمشي أمامه بالعصا، حتى إذا أتى مجلسه نزع نعليه فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أن يقوم ألبسه نعليه، ثم مشى بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة قبل رسول اللَّه. وكان يصوم الاثنين والخميس. وكان رجلاً نحيفاً قصيراً. دقيق الساقين. وكان من كبار الصحابة، وساداتهم، وفقهائهم، ومقدميهم في القرآن، والفقه، والفتوى، وأصحاب الخلق، والأتباع في العلم. مات بالمدينة، ودفن بالبقيع عند قبر عثمان بن مظعون كما أوصى وهو ابن بضع وستين سنة. وقيل: إنه ترك تسعين ألف درهم.


(١) ابن كثير، البداية والنهاية ج ٧/ص ١٦٢.
(٢) هو سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل، أبو الأعور هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، المتوفى سنة ٥٠ هـ. للاستزادة راجع: تهذيب التهذيب ج ٤/ص ١٨٥، تقريب التهذيب ج ١/ص ١٧٠، الجرح والتعديل ج ٤/ص ١١٠، أسماء الصحابة الرواة ترجمة ٦٤، طبقات ابن سعد ج ٣/ص ٦٤، صفة الصفوة ج ١/ص ٨٣، حلية الأولياء ج ١/ص ٨٠، الرياض النضرة ج ١/ص ١١٥، صورة من حياة الصحابة، الأعلام ج ٣/ص ٩٤.
(٣) هي فاطمة بنت الخطاب بن نُفيل القرشية، صحابية من السابقات إلى الإسلام، أسلمت قبل أخيها عمر، وأخفت إسلامها عنه، فدخل عليها فسمعها تتلو آيات من القرآن، فضربها وشجَّها، والخبر معروف من إسلام عمر، كانت زوجة لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل. للاستزادة راجع: ابن سعد ج ٨/ص ١٩٥، السيرة النبوية ج ١/ص ٢٧١، جمهرة الأنساب ١٤٣، الإصابة باب النساء ترجمة ٨٣٧.
(٤) رواه الطبراني في المعجم الكبير (٩: ٧٧) .
(٥) رواه السيوطي في الدر المنثور (٦: ١٥٣) ، والفتني في تذكرة الموضوعات (٧٨) .
(٦) صاحب سواد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: أي صاحب سرَّه.

<<  <   >  >>