فإن كنت تبطله على رأي السوفسطائية وكثير من أصحاب الشرع، فلا تقيسن " مكة " علة ظبة، ولا تزعمن اليمامة جرت مجرى " وج "، ولا تحكمن على الصخرة بحكم الحصاة، ولا تجعلن الرقلة نظيرة للودية، ولا حرقوص الجدالة كنواة المقلة؛ ولا تطالبن السعن المرسل إلى الناكز، بمثل ما طالبت به الغرب المغترف، وأجز في مذهبك أن أكون أقتدر على النظام، ولا تزعمن أني كغيري من البهائم وأجناس الحيوان ...
وإن ثبت المقاييس على مذهب الجمهور من أهل النظر وأصحاب الأسطوان الذين يسمون أساطين الحكمة، وعلى رأي أصحاب الطبائع، فاحمل الثمد على الغمر، واحكم على ما أهل من البهائم بحكم الضب. ولا تفرد حكم الساعة من حكم السنة، ولا حال الشهر م حال الدهر. وإذا جاز أن ينبت في المكان عشبة فاردة، جاز أن يكون فيه روضة مكتهلة.
أليس الرواة يتناقلون أن الضب قال لولده، وقد احتفر عليه يعض المحتفرين:
أَهَدَموا بَيْتَك لا أَبا لكا ... وزعموا أَنك لا أَخا لَكا
وأَنا أَمشي الدَّأَلَى حَوَالَكا
وأن النون قال للضب: رد يا ضب. فقال:
أَصبح قلبي صَرِدا ... لا يشتهي أَن يَردَا
إِلا عَراداً عَرِدَا ... وعَنْكَثاً مُلْتَبِدا
وصِلِّيَاناً بَرِدَا
فإن زعمت أن هذا سائغ للضب، فأجزه لغيره.
وإذا نطق باليسير من الموزون، فما الذي يمنع من النطق بكثيره؟ وقد تقدم أن الشعر نوع من جنس، وذلك الجنس هو الكلام. وإذا صح ذلك قلنا: إن الشعر جنس، والرجز نوع تحته ...
وإنما ذكرت ذلك خشية أن تذهب إلى أن الرجز ليس بشعر، كما قال ذلك بعض الناس محتجاً لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
أَنا النبيُّ لا كذِبْ
أَنا ابن عبدِ المطَّلِبْ
ولما جاء في الرواية الأخرى، أنه قال:
هل أَنتِ إِلا إِصبَعٌ دَمِيتِ
وفي سبيلِ اللهِ ما لقيتِ
في أشباه لهذا. ويحتجون بقولهم للذي ينشيء الرجز: راجز، وللذي ينشيء غيره من القصيد: شاعر.
وإذا ركبنا القضية الثنوية الكلية، فجعلنا المحمول جنساً والحامل نوعاً، فالقضية كذب لا محالة.
وإذا عكسنا ذلك فجعلنا المحمول نوعاً والحامل جنساً، كانت القضية صدقاً. فنقول: كل رجز شعر، فيكون قولاً صادقاً. وإن قيل: كل شعر رجز. فذلك باطل من المقول.
وما أدفع أن الرجز أضعف من القصيد، ولكنهما جنس واحد.
وأما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختلفت الأمة في شأنه وفي قوله تعالى: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له ".
فقالت طائفة: لا يكون النبي عليه السلام، إلا عالماً بجميع أصناف العلم الذي يعرفه الآدميون. وإنما تعبد صلى الله عليه وسلم بتركه ذلك الفن - كما تعبد بترك الزنا وشرب المسكر - وكان ذلك خالصاً له في نفسه دون غيره من المسلمين. وإلى هذه المقالة ذهبت أصناف الشيعة، واحتجوا بأن فقد المعرفة بهذا الجنس، معدود في بني آدم من النقص. ولا يبعث الله جل اسمه، إلا أفضل من يكون في عصر المبعث. وقد كان أبوه، صلى الله عليه وسلم، وجده وأعمامه ينطقون بالمنظوم: نقلت الرواة أن " عبد الله بن عبد المطلب " قال للكاهنة لما رأت النور بين عينيه فدعته إلى نفسها:
أَما الحرامُ فالمماتُ دونَه ... والحِلُّ، لا حِلَّ فأَستبينَه
فكيف بالأَمرِ الذي تَبْغِينَه
وأنشدت الرواة ل " الزبير بن عبد المطلب " عم النبي عليه السلام:
إِذا كنتَ في حاجةٍ مُرْسِلاً ... فأَرسِلْ حكيما ولا تُصِهِ
وإِنْ بابُ أَمرٍ عليكَ التَوَى ... فشاوِرْ لبِيباً ولا تَعْصِهِ
فأما " أبو طالب " فكان أشعر قريش. وقد روى عن " العباس " شعر كثير، وكذلك عن " علي ".
قالوا: فإن كان الشعر منقصة، فلم استعملها السادة في الإسلام والجاهلية؟ وإن كان فضيلة فلم يحرمها الرسول صلى الله عليه وسلم؟