[بسم الله الرحمن الرحيم]
وصلى الله على سيدنا محمد وسلم تسليما.
الحمد لله الذي علمنا ما لم نكن نعلم، وفضلنا على كثيرٍ من خلقه وقدم، وجعلنا ممن بقتدى به ويؤتم، وصلى الله على محمدٍ وعلى آله وسلم.
قال أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي رحمه الله: لما فرغت من الكلام في إصلاح الخلل الواقع في كتاب الجمل، أردت أن أتبع ذلك الكلام في إعراب أبياته ومعانيها، وما يحضرني من أسماء قائليها.
وغرضى أن أصل بكل بيت منها ما يتصل به ليكون أبين لغرض قائله ومذهبه.
ولم يمنعني من الكلام في إعرابها ومعانيها ما تقدمني من كلام غيري فيها، فربما كان لكلام غيري مزية على ماسواه، وزيادة فضلٍ لمن وقف عليه ورواه.
وأنا أسأل الله عوناً على ما أبديه، إنه ولي الفضل ومسديه، لا رب سواه، ولا معبود حاشاه.
أنشد أبو القاسم رحمه الله في باب النعت:
لاَ يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذين هُمُ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وآفةُ الْجُزْرِ
النَّازِلينَ بِكُلِ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ اْلأَزرِ
هذا الشعر لخرنق بنت هفان القيسمية، وهي أخت طرفة ابن العبد المالكي لأمه، من شعر رثت به زوجها بشر، ابن عمرو، بن مرثد، ومن قتل معه من بنيه وقومه، وكان غزا بني أسد بن خزيمة، هو وعمرو، بن عبد الله، بن الأشل، وكانا متساندين: بشر على بني مالك، وبني عتاب بن ضبيعة، وعمرو على بني رهم.
ومعنى التساند والمساندة: أن يخرج كل رجلٍ منهم على حدته، ليس لهم أمير يجمعهم، فأغارا على بني أسد، فتقدمتهم بنو أسد إلى عقبة يقال لها: قلاب، فقتل بشر بن عمرو وبنوه، وفر عمرو بن عبد الله بن الأشل فسمى ذلك اليوم: يوم قلاب.
وخرنق: من الأسماء المنقولة من الأنواع إلى العلمية؛ لأن الخرنق في اللغة ولد الأرنب، وهو للذكر والأنثى، والخرنق أيضاً: مصنعة الماء وهو نحو الصهريج.
وأما هفان: فاسم مرتجل غير منقول، وهو مشتق من الهفيف، وهو السرعة والخفة، ويقال له: هفان بفتح الهاء وكسرها ومعنى لا يبعدن: لا يهلكن، وهو دعاء خرج بلفظ النهى، وإن كان ليس بنهى، كما يخرج الدعاء بلفظ الأمر، وليس بأمر، إذا قلت: اللهم اغفر لزيد.
وبطل إعراب الفعل لدخول النون الخفيفة فيه، لأنها ترد المستقبل مبنياً على السكون، من حيث أنها تمنعه من دخول العوامل عليه، ويجرى بالفتح للواحد المذكر، وبالكسر للواحدة المؤنثة، وبالضم لجماعة المذكرين، وحركته لالتقاء الساكنين على مذهب سيبويه.
يقال: بعد الرجل يبعد، على مثال: علم يعلم، إذا هلك، قال الله تعالى: " ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود ". فإذا أردت البعد الذي هو ضد القرب قلت: بعد يبعد، على مثال: ظرف يظرف.
والمصدر الذي يراد به الهلاك: بعداً بفتح الباء والعين، والمصدر الذي يراد به ضد القرب: بعداً، على مثال ضده، الذي هو قرب، وربما استعملوا البعد في الهلاك، لتداخل معنييهما.
فإن قال قائل: كيف دعت لقومها بأن لا يهلكوا، وهم قد هلكوا؟! فالجواب: أن العرب قد جرت على عادتها باستعمال هذه اللفظة في الدعاء للميت، ولهم في ذلك غرضان: أحدهما: أنهم يريدون بذلك استعظام موت الرجل الجليل، وكأنهم لا يصدقون بموته، وقد بين هذا المعنى زهير بن أبي سلمى بقوله:
يقولون: حِصْن ثم تأْبى نفوسهم ... وكيف بِحِصْن والجبالُ جُنوحُ!
ولم تلفظ الموتى القبورُ ولم تَزَلْ ... نجومُ السَّماءِ والأديمُ صحيحُ!
أراد أنهم يقولون: مات حصن، ثم يستعظمون أن ينطقوا بذلك، ويقولون: كيف يجوز أن يموت والجبال لم تنسف، والنجوم لم تنكدر، والقبور لم تخرج موتاها، وجرم العالم صحيح، لم يحدث فيه حادث؟!! فهذا أحد الغرضين.
والغرض الثاني: أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره، ولا يذهب؛ لأن بقاء ذكر الإنسان بعد موته بمنزلة حياته؛ ألا ترى إلى قول الشاعر:
فأثنوا علينا لا أَبا لأَبيكم ... بأفعالنا إِنَّ الثناء هو الخلدُ
وقال آخر وهو التميمي يرثي يزيد بن يزيد الشيباني:
فإنْ تَكُ أفْنَتْهُ اللَّيالي فأوْشَكَتْ ... فإنّ له ذكراً سَيُفْنِي اللَّيَاليَا!
وقال أبو الطيب المتنبي، في هذا المعنى فأحسن كل الإحسان: