المذهب الحنفي الذي تلقته الأجيال وخرج العلماء المسائل على ما استنبط من أصوله هو مدرسة فقهية تجمع آراء الإمام أبي حنيفة واجتهاداته إلى أقوال واجتهادات أصحابه وتلاميذه وبعض معاصريه، كما تضم ما أضافه فقهاء آخرون تبنوا المذهب وساروا على نفس أصوله وإن لم يعاصروا شيخه. فكان لاختلاط الرواية عن الإمام أبي حنيفة بالرواية عن غيره ولاتحاد الأصول أثر في مزج الآراء وجعل مجموعها مذهباً واحداً.
وقد نشأ المذهب في موطن الإمام في الكوفة ثم تدارسه العلماء ببغداد بعد وفاة شيخه ثم شاع وانتشر في أكثر البقاع الإسلامية، فكان في العراق ثم في مصر والشام وبلاد الروم وما وراء النهر، ثم اجتاز الحدود فكان في الهند والصين حيث لا منافس له ولا مزاحم، ويكاد يكون المنفرد في تلك الأصقاع النائية إلى الآن، إذ المسلمون في الهند والصين يسيرون في عبادتهم وفي تنظيم أسرهم عليه دون سواه.
وقد ابتدأ ينال المنزلة الرسمية التي يسرت له الانتشار منذ أن ولي أبو يوسف منصب القضاء للرشيد ثم صار قاضي القضاة، فكان لا يعين قاضياً في البلاد الإسلامية، من أقصى المشرق إلى شمالي إفريقية، إلا أن يكون حنفياً. فكان المذهب الحنفي المذهب الرسمي للدولة وفي عهد العباسيين ثم العثمانيين.
وإذا كان انتشار المذهب الحنفي في أول الأمر بسبب اختيار الخلفاء للقضاة من أئمته فقد اكتسب نفوذاً قوياً بسبب إلف الناس له ونشاط العلماء والمناظرات فيه. كما أن طبيعة المذهب المرنة جعلته قابلاً لكل الأزمنة ملائماً لكل الظروف والبيئات.