وقد أضفت خدمة تلاميذ الإمام أبي حنيفة لمذهبه وعنايتهم بذلك جلالاً على المذهب وإمامه. وسنخص بالذكر بعض أصحابه ممن كان لهم أثر في نقل فقهه إلى الأجيال اللاحقة.
أبو يوسف (١١٣ - ١٨٢ هـ) :
وهو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب، الأنصاري نسباً والكوفي منشأً وتعلماً ومقاماً. نشأ فقيراً تضطره الحاجة للعمل ثم أمده الإمام أبو حنيفة بالمال فانصرف إلى طلب العلم. جلس إلى ابن أبي ليلى الفقيه قبل أن يجلس إلى أبي حنيفة رضي الله عنه، ثم انقطع إليه مع اتصاله بالمحدثين. وكان فقيهاً عالماً حافظاً، كثير الحديث، عُدّ أحفظ أصحاب الإمام أبي حنيفة للحديث. ولي القضاء لثلاثة من الخلفاء العباسيين: المهدي والهادي ثم الرشيد الذي كانت له عنده مكانة وحظوة.
وقد استفاد الفقه الحنفي من أبي يوسف فوائد جليلة، إذ أن اختباره للقضاء جعله يصقل المذهب صقلاً علمياً بسبب اطلاعه على الشؤون العامة ومشاكل الناس، فأصبح قياسه واستحسانه مشتقاً من الحياة العملية لا من الفروض النظرية فقط. وقد استمد المذهب الحنفي نفوذاً مكيناً بتولي أبي يوسف القضاء وكونه القاضي الأول للدولة.
ولعل أبا يوسف أول فقهاء الرأي الذين دعموا آراءهم بالحديث وبذلك جمع بين طريقة أهل الرأي وطريقة أهل الحديث.
ولأبي يوسف كتب كثيرة دوّن فيها آراءه وآراء شيخه، منها كتاب الآثار وكتاب أبي حنيفة وابن أبي ليلى وكتاب الرد على سير الأوزاعي وغيرها. وفي كتبه جمال في التعبير ووضوح وجزالة ودقة قياس وإحكام فكر، إلى جانب بعض الأدلة الفقهية المصورة لاتجاه الإمام أبي حنيفة في تفكيره.
محمد بن الحسن الشيباني (١٣٢ - ١٨٩ هـ) :
يكنى أبا عبد الله، وينتسب إلى شيبان بالولاء. كانت سنه عند موت الإمام أبي حنيفة ثماني عشرة سنة، فلم يتلق عنه أمداً طويلاً، ولكنه أتم دراسته لفقه العراق الذي صقله القضاء على أبي يوسف، كما تلقى فقه الحجاز عن مالك رضي الله عنه، وروايته للموطأ من أجود الروايات، وتلقى فقد الشام عن الأوزاعي.
وكانت له قدرة ومهارة في التفريع والتخريج بالإضافة إلى درايته الواسعة البالغة في الأدب وامتلاكه أعنة البيان. قال فيه الشافعي: "كان محمد بن الحسن يملأ العين والقلب، وكان أفصح الناس، إذ تكلم خيل إلى سامعه أن القرآن نزل بلغته". وقد تمرس بالقضاء أيضاً مما أفاده علماً وتجربة وقرب فقهه من الناحية العملية التي لا تقتصر على التصور والنظر المجرد. وكان عنده اتجاه إلى التدوين فهو يعد بحق ناقل فقه العراقيين إلى الأخلاف، وتعد كتبه المرجع الأول لفقه أبي حنيفة رضي الله عنه، سواء في ذلك ما كان بروايته عن أبي يوسف ومراجعته عليه، وما كان قد دوّنه من فقه أهل العراق وتلقاه عن أبي يوسف وغيره.
وأهم كتبه: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والسير الصغير والسير الكبير والجامع الكبير، وتسمى الأصول وسميت كتب ظاهر الرواية لأنها رويت عن محمد برواية الثقات فهي ثابتة عنه إما متواترة أو مشهورة. ومن كتبه أيضاً كتاب الآثار الذي جمع فيه الأحاديث والآثار التي رواها أبو حنيفة رضي الله عنه، وهو يتلاقى في كثير من مروياته مع كتاب الآثار لأبي يوسف وكلاهما يعد مسنداً لأبي حنيفة رضي الله عنه وقد جمعا بعناوين فقهية مرتبة. وهذه الكتب هي عماد النقل في الفقه الحنفي وتعد الأصل الذي يرجع إليه في فقه الإمام أبي حنيفة وأصحابه.
زُفَر بن هذيل (١١٠ - ١٥٨ هـ) :
وهو أقدم صحبة لأبي حنيفة، رضي الله عنه، من صاحبيه أبي يوسف ومحمد. كان ذكياً قوي الحجة أخذ عن الإمام أبي حنيفة فقه الرأي وكان أحد أصحابه قياساً. ليس له كتب بل عمل على نشر آراء أبي حنيفة رضي الله عنه بلسانه في مناظراته الفقهية مع علماء البصرة، وكان قد تولى قضاءها في حياة شيخه. وقد خلف زُفَر أبا حنيفة رضي الله عنه في حلقته ثم خلفه من بعده أبو يوسف.