للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقه أبي حنيفة رضي الله عنه:

كان أبو حنيفة رضي الله عنه أشهر فقهاء الرأي كما كان مالك أشهر فقهاء الحديث. ويقصد بالرأي: كل ما يفتي فيه الفقيه في الأمور التي لا يجد فيها نصاً، ويعتمد في فتواه على ما عرف من الدين بروحه العامة، أو ما يتفق مع أحكامه في جملتها في نظر المفتي، أو ما يكون مشابهاً لأمر منصوص عليه فيها فيلحق الشبيه بالشبيه. وعلى ذلك يكون الرأي شاملاً للقياس والاستحسان والمصالح المرسلة والعرف.

وأساس الاختلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث ليس في الاحتجاج بالسنة بل في أمرين: في الأخذ بالرأي، وفي تفريغ المسائل تحت سلطانه. فقد كان أهل الحديث لا يأخذون بالرأي إلا اضطراراً ولا يفرغون المسائل، فلا يستخرجون أحكاماً لمسائل لم تقع، بل لا يفتون إلا فيما يقع من الوقائع. أما أهل الرأي فيكثرون في الإفتاء بالرأي ما دام لم يصح لديهم حديث في ذلك الموضوع الذي يجتهدون فيه، ولا يكتفون باستخراج أحكام المسائل الواقعة بل يفرضون مسائلا غير واقعة ويضعون لها أحكاماً بآرائهم. وكان أكثر أهل الحديث بالحجاز، لأنه موطن الصحابة الأول ومكان الوحي، ولأن التابعين الذين أقاموا فيه تخرجوا على صحابة لم يكثروا من الرأي. وأكثر أهل الرأي كانوا بالعراق، لأنهم تخرجوا على ابن مسعود رضي الله عنه وهو ممن كانوا يتحرجون في الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتحرج في الاجتهاد برأيه، ولأن العراق كان موطناً لفلسفات وعلوم مدارس قديمة، كما أن أسباب الرواية لم تتوافر عند أهله.

وقد عرف أبو حنيفة رضي الله عنه باتجاهه إلى الفرض والتقدير فكان يقدر مسائل لم تقع ويبين حكمها ويوضح أدلتها ويقول في ذلك: "إنا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه".

وهكذا زاد أبو حنيفة رضي الله عنه الفقه التقديري نمواً وأكثر فيه، وسلك الفقهاء من بعده مسلك الفرض والتقدير واختلفوا في المقدار.

ذكر العلماء مسنداً من الأحاديث والآثار منسوباً إلى أبي حنيفة رضي الله عنه، ولكن أكثر الآراء على أن أبا حنيفة رضي الله عنه لم يدون في الفقه كتاباً مبوباً؛ فقد كان المعروف أن تلاميذه يدونون آراءه ويقيدونها، وربما كان ذلك بإملاءه أحياناً، وكان هو يراجع ما دُوّن أحياناً ليقره أو ليغيره. وكان في جلساته الفقهية مع تلاميذه يلقي مسألة مسألة يقلبها ويسمع ما عندهم ويقول ما عنده ويناظرهم حتى يستقر أحد الأقوال فيها ثم يثبتها أبو يوسف في الأصول حتى أثبت الأصول كلها. وبهذا النحو من التحرير دُوّن مذهب الإمام أبي حنيفة وأصحابه، ونشره أصحابه كتباً مبوبة مرتبة منظمة.

وكانت الأقوال التي نقلها أصحاب الإمام أبي حنيفة خالية من الدليل، إلا ما يكون من أثر منقول أو خبر مشهور أو اعتماد على فتوى صحابي أو انتهاء إلى رأي تابعي، وقليلاً ما يذكر قياسها أو عماد استحسانها، اللهم إلا ما كتب أبي يوسف ولا تحكي إلا القليل. ولا شك أن ذلك يبعد بنا عن معرفة الإمام أبي حنيفة القياس صاحب الاستحسان الذي عد أقوى قائس في عصره، فلم يجرؤ أحد على منازعته القياس إذا قايس أو استحسن.

وإذا كانت الطبقة التي وليت أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه قد عنيت بالاستدلال واستخراج الأقيسة في الأحكام وبيان أوجه الاستحسان وأحكام العرف، فإننا لسنا على ثقة كاملة من أن هذا الاستدلال الذي يسوقونه هو نفس ما كان يفكر فيه الإمام أبو حنيفة وما اهتدى على ضوئه إلى ما قرره من أحكام.

تلاميذه:

كان لأبي حنيفة رضي الله عنه تلاميذ كثيرون، منهم من كان يرحل إليه ويستمع أمداً ثم يعود إلى بلده بعد أن يأخذ طريقه ومنهاجه، ومنهم من لازمه. وقد قال هو في أصحابه الذين لازموه: "هؤلاء ستة وثلاثون رجلاً منهم ثمانية وعشرون يصلحون للقضاء، وستة يصلحون للفتوى، واثنان أبو يوسف وزُفَر يصلحان لتأديب القضاة وأرباب الفتوى".

ولا شك أن هؤلاء الصحاب الذين يقرر أبو حنيفة رضي الله عنه صلاحيتهم للقضاء والإفتاء وتأديب القضاة كانوا في حياته من النضج العلمي بحيث يمكن أن تعهد إليهم هذه الأمور الخطيرة، وكانوا في سن تؤهلهم لها. أما محمد بن الحسن فقد كان في الثامنة عشر من عمره حينما توفي أبو حنيفة رحمه الله ولم تكن سنه تؤهله للقضاء، مع أننا سنجد فقه أبي حنيفة - رضي الله عنه - خاصة وفقه العراقيين عامة مدين لمحمد ابن الحسن بكتبه، فهي التي حفظته وأبقته للأخلاف مرجعاً يرجع إليه ومنهلاً يستقى منه.

<<  <   >  >>