للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

منزلته العلمية ومصادر علمه:

كان الإمام أبو حنيفة فقيهاً مستقلاً قد سلك في تفكيره مسلكاً استقل به وتعمق فيه. وقد بقيت أصوات الثناء تتجاوب في الأجيال تعطر سيرته، قال أحد العلماء: "أقمت على أبي حنيفة خمس سنين فما رأيت أطول منه صمتاً، فإذا سئل عن شيء من الفقه تفتح وسال كالوادي وسمعت له دوياً وجهارة بالكلام". كما وصفه معاصره الورع التقي عبد الله بن المبارك بأنه مخ العلم، فهو قد أصاب من العلم اللباب ووصل فيه إلى أقصى مداه، وكان يستبطن المسائل ويستكنه كنهها ويتعرف أصولها ويبني عليها. ولقد شغل عصره بفكره وعلمه ومناظراته، فهو بين المتكلمين يناقشهم ويدفع أهواء ذوي الأهواء؛ ويناقش الفرق المختلفة وله رأي في مسائل علم الكلام أثر عنه؛ بل هناك رسائل نسبت إليه، وله في الفقه والتخريج وفهم الأحاديث واستنباط علل أحكامها والبناء عليها المقام الأعلى، حتى إن بعض معاصريه قال: "إنه لم يعرف أحداً أحسن فهماً للحديث منه".

من أين جاء لأبي حنيفة رضي الله عنه كل هذا العلم؟ ما مصادره؟ ما مهيئاته؟ ما الذي توافر له حتى كان منه ما رواه تاريخ العالم الإسلامي؟.

لقد تهيأ لتوجيه أبي حنيفة رضي الله عنه توجيهاً علمياً ولنبوغه في وجهته أمور أربعة، أولها: صفاته التي جبل عليها، ثانيها: شيوخه الموجهون الذين التقى بهم وأثروا فيه، ثالثها: حياته الشخصية وتجاربه، ورابعها: العصر الذي أظله والبيئة الفكرية التي عاش فيها.

وسنخص كل واحد من هذه العناصر بكلمة:

-١ - صفاته:

اتصف أبو حنيفة رضي الله عنه بصفات جعلته في الذروة بين العلماء، صفات العالم الحق الثبت الثقة، البعيد المدى في تفكيره، المتطلع إلى الحقائق، الحاضر البديهة الذي تسارع إليه الأفكار.

كان رضي الله عنه ضابطاً لنفسه مستولياً على مشاعره، لا تعبث به الكلمات العارضة ولا تبعده عن الحق العبارات النابية، كان يقول: "اللهم من ضاق بنا صدره فإن قلوبنا قد اتسعت له". وقد أوتي استقلالاً في تفكيره جعله لا يخضع في رأيه إلا لنص من كتاب أو سنة أو فتوى صحابي، ولم يؤثر فيه الحب والبغض.

كان عميق الفكرة بعيد الغور في المسائل، لا يكتفي بالبحث في ظواهر الأمور والنصوص ولا يقف عند ظاهر العبارة بل يسير وراء مراميها البعيدة أو القريبة، ولعل ذلك العقل الفلسفي المتعمق هو الذي دفعه لأن يتجه أول حياته إلى علم الكلام كما دفعه لدراسة الحديث دراسة متعمقة، يبحث عن علل ما اشتمل عليه من أحكام مستعيناً بإشارات الألفاظ ومرامي العبارات.

كان حاضر البديهة، لا تحتبس فكرته ولا يفحم في جدال، واسع الحيلة يعرف كيف ينفذ إلى ما يفحم به خصمه من أيسر السبل، وله في ذلك غرائب ومدهشات حتى قيل فيه: إنه لو أراد أن يثبت الحكم وعكسه لما أعجزه ذلك.

كان مخلصاً في طلب الحق مما نور قلبه وأضاء بصيرته، فكان لا يهمه إلا الحق سواء كان غالباً أو مغلوباً. وكان لإخلاصه لا يفرض في رأيه أنه الحق المطلق بل يقول: "قولنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاء بأحسن من قولنا فهو أولى بالصواب منا".

هذه جملة الصفات التي جعلت من أبي حنيفة رضي الله عنه فقيهاً انتفع بكل غذاء روحي وصل إليه.

-٢ - شيوخه والموجهون الذين التقى بهم:

التقى الإمام أبو حنيفة بعدد من الذين عمروا من الصحابة، منهم أنس بن مالك وعبد الله ابن أبي أوفى وسهل بن سعد رضوان الله عليهم، ولكنه لم يرو عنهم إذ كان في سن لقائه بهم صغيراً، ولكن أجمع العلماء على أنه التقى بكبار التابعين وجالسهم ودارسهم وروى عنهم وتلقى فقههم.

وقد قال: "كنت في معدن العلم والفقه فجالست أهله ولزمت فقيهاً من فقهائهم".

وهذا يدل على أنه عاش في وسط علمي وجالس العلماء وعرف مناهج بحثهم ثم اختار من بينهم فقيهاً وجد فيه ما يرضي نزوعه العلمي وهو حماد بن أبي سليمان الذي انتهت مشيخة الفقه العراقي في عصره، فلزمه ثماني عشرة سنة. وكان حماد قد تلقى معظم فقهه على إبراهيم النخعي فقيه الرأي كما تلقى عن الشعبي فقيه الأثر، وهما اللذان انتهى إليهما فقه الصحابيين الجليلين عبد الله بن مسعود وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وكانا قد أقاما بالكوفة وأورثا أهلها تراثاً فقهياً عظيماً.

ومن شيوخه عطاء بن أبي رباح الذي أخذ خلاصة علم ابن عباس رضي الله عنهما عن مولاه عكرمة. وكان أبو حنيفة رضي الله عنه يلازمه ما دام مجاوراً لبيت الله الحرام.

ومنهم نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما وقد أخذ عنه أبو حنيفة رضي الله عنه علم ابن عمر وعلم عمر رضي الله عنهما. وهكذا اجتمع للإمام أبي حنيفة علم عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم عن طريق من تلقى عنهم من تابعيهم رضي الله عنهم أجمعين.

ولم يقتصر الإمام أبو حنيفة على الأخذ عن هؤلاء الفقهاء بل تجاوز ذلك إلى أئمة آل البيت فأخذ عنهم ودارسهم، منهم الإمام زيد بن علي زين العابدين ومحمد الباقر وجعفر الصادق وعبد الله بن الحسن بن الحسن.

ولم يكن اتصال أبي حنيفة، رضي الله عنه، العلمي مقصوراً على رجال الجماعة وأئمة آل البيت بل اتصل بمختلف الفرق وتعرف على آرائهم وأقوالهم، فكان يأخذ من كل هذه العناصر ثم يخرج منها بفكر جديد ورأي قويم لم يكن من نوعها وإن كان فيه خيرها.

وهكذا نستطيع أن نقول إنه تلقى فقه الجماعة الإسلامية بشتى منازعها وإن كان قد غلب عليه تفكير أهل الرأي بل عُدّ شيخ أهل الرأي.

-٣ - دراسته الخاصة وتجاربه:

كانت حياة الإمام أبي حنيفة ودراساته وتجاربه تتجه به نحو تكوين فقيه العراق الأول.

فقد زاول التجارة وكان عليماً بأحوال البيع والعرف التجاري مما جعله يتكلم في معاملات الناس وأحكامها كلام الخبير الفاهم؛ فجعل للعرف مكاناً في تخريجه الفقهي، وأحسن التخريج بالاستحسان عندما يكون في القياس منافاة للمصلحة أو العدالة.

كما كان كثير الرحلة إلى الحج وغيره يلتقي بالعلماء يدارس ويذاكر ويناظر ويروي ويفتي. هذا إلى ما تفيده الرحلات نفسها من فتق للذهن ومعرفة بمواطن الوحي والبلاد المختلفة؛ فيحيط خبراً بمعاني الآثار ودقائق الأخبار ويحسن التفريع في المسائل الفقهية ويحكم تصورها والإلمام بأحكامها.

وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه مغرماً بالجدل والمناظرة منذ شب في طلب العلم، ومجادلته في العقائد أرهفت تفكيره وعمقت مداركه، ومناظراته في الفقه أطلعته على أحاديث وأوجه للقياس وفتاوى للصحابة لم يكن مطلعاً عليها.

وطريقة الإمام أبي حنيفة الخاصة في التدريس جعلت درسه مجالاً لتثقيف المعلم والمتعلم معاً، فقد كان يطرح الفكرة ويناقشها مع تلاميذه، كل يدلي برأيه مخالفاً أو موافقاً، وبعد تقليب النظر يدلي هو بالرأي الذي تنتجه هذه الدراسة فيقر الجميع به. وهذا جعل علمه في نمو متواصل وفكره في تقدم مستمر.

-٤ - عصره:

أدرك الإمام أبو حنيفة العصر الأموي في عنفوانه وقوته ثم في تحدره وانهياره، وأدرك الدولة العباسية في نشأتها قوية ظافرة ناهضة مسيطرة.

وعاش أبو حنيفة رضي الله عنه في العصر الأموي اثنتين وخمسين سنة، وهي السن التي تربى فيها وبلغ أشده، ثم بلغ أوجه العلمي ونضجه الفكري الكامل. ولم يدرك من العصر العباسي إلا ثماني عشرة سنة، وكانت عاداته الفكرية ومناهجه العلمية قد استقامت، وصار ينتج الكثير ولا يأخذ إلا القليل. وعلى هذا فما أخذه الإمام أبو حنيفة من عصره كان أكثره من الأموي وأقله من العباسي، وكان العصر العباسي نمواً لما في العصر الأموي ونتائج لمقدمات بدأت قبله.

وقد أغنت الحياة السياسية الحافلة بالصراعات والاتجاهات، والحياة الاجتماعية التي ضمت عناصر مختلفة لكل منها طابع خاص رغم أنها انصهرت جميعها في بوتقة الإسلام، والمشاغل الفكرية في أمور العقيدة وما نشأ عنها من فرق ونحل، وازدهار حركة الترجمة عن الفكر اليوناني والفارسي والهندي، وتفرغ العلماء للخوض في علوم الدين الذي أثمر حركة التدوين للحديث وكثرة المناظرات والرحلات العلمية. أغنت هذه الأجواء، السياسية والاجتماعية والفكرية والعلمية، مدارك الفقهاء وساعدت في تفتق أذهان العلماء وأوجدت مناخاً ملائماً ساعد في استخراج المسائل وفي فرض الفروض والتصورات.

<<  <   >  >>