عاش أبو حنيفة رضي الله عنه عصراً مليئاً بالمشاحنات والتيارات، فقد أدرك دولتي بني أمية والعباس، وكان موقفه واضحاً من كل ما يجري حوله، ولم يعرف عنه يوماً أنه خرج مع الخارجين أو ثار مع الثائرين ... لكن لما طلب منه عمر بن هبيرة والي الأمويين على الكوفة أن يعمل معه امتنع فسجن وعذب ثم هرب ولجأ إلى مكة، واتخذها مقاماً ومستقراً له من سنة (١٣٠ - ١٣٦) للهجرة، فعكف على الفقه والحديث يطلبهما بمكة التي ورثت علم ابن عباس رضي الله عنهما.
ولما استتب الأمر للعباسيين عاد إلى الكوفة وأعلن ولاءه لهم وتابع حلقات درسه في مسجد الكوفة. واستمر على ولائه للدولة العباسية، إلا أنه على ما يظهر انتقد موقف الخليفة المنصور من بعض آل البيت من أبناء علي رضي الله عنه، وكان حول الخليفة كثيرون يحسدون أبا حنيفة - رضي الله عنه - ويوغرون صدر المنصور عليه، فكان أن عرض عليه الخليفة المنصور منصب القضاء امتحاناً لإخلاصه، فاعتذر الإمام عن قبول المنصب تحرجاً من الوقوع في الإثم لأنه يرى القضاء منصباً خطيراً لا تقوى نفسه على احتماله، وتعرض لمحنة قاسية بسبب رفضه؛ إذ وجد الخليفة المنصور الفرصة مواتية للنيل منه فسجن وعذب ثم أخرج من السجن على أن يفتي فكان يُرْجِعُ المسائل ولا يفتي فيها بشيء، فسجن من جديد ثم أخرج ومنع من الفتوى والناس والخروج من المنزل، فكانت تلك حاله إلى أن توفي رحمه الله سنة (١٥٠) للهجرة على أصح الأقوال. وقيل إنه مات مقتولاً بالسم في سجنه رحمه الله.
وكان قد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران فحمل إليها. وقدر عدد من شيع جنازته وصلى عليها بخمسين ألفاً. وقد صلى المنصور نفسه عليها إقراراً منه بعظمة دينه وتقواه وقال: من يعذرني منك حياً وميتاً؟ رحم الله الإمام ورضي الله عنه وأرضاه.