وإنني لأعجب من أولئك المبتدعة الذين يلغون عقولهم، ويروجون لمذهبهم، ويصرون على صحته، وأنه لا حق سواه، مع أن مخالفته للوحي المعصوم لا تحتاج إلى كد ذهن، ولا إمعان روية، لأنها في غاية الجلاء وفي منتهى الوضوح. فالله تعالى يقول عن نفسه إنه في السماء وإنه فوق. ويخبر عنه رسوله بذلك فيما لا يحصى كثرة من الأحاديث، والفطرة والعقل شاهدان على ذلك. وهم يقولون موجود، ولكنه ليس في مكان. أو أنه في كل مكان، فهل هذا إلا تعطيل لنصوص الوحي، وإلغاء للعقل، ومكابرة الفطرة؟! وذلك كانت سفسطتهم وبالا عليهم، فأوقعهم في حيرة وشك، وكانت نهاية أمرهم الإفلاس، والاعتراف بالتخبط وعدم الاهتداء، كما سبق أن أوضحنا من مقالات أئمتهم في الدراسة التي قدمنا بها لهذا الكتاب. ولا ريب أن القوم سيكون لهم موقف مما خالف مذهبهم من نصوص الوحي، من أجل محاولة المحافظة على ماء وجوههم المهراقة، فعمدوا إلى النصوص المثبتة لهذه الصفة، التي هي من أعظم الصفات وأجلها، فأولوها بما يبعدها عن الوقوف في وجه باطلهم، يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- واصفا موقفهم وحقيقته ومؤداه: " ... التاسع: التأويل الذي يوجب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلو والشرف، ويحطه إلى معنى دونه بمراتب كثيرة، وهو شبيه بعزل السلطان عن ملكه، وتوليته مرتبة دون الملك بكثير، مثاله: تأويل الجهمية قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} (الأنعام: من الآية: ١٨) ، وقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} (النحل: من الآية: ٥٠) ، ونظائره بأنها فوقية الشرف. كقولهم: الدرهم فوق الفلس، والدنيار فوق الدرهم، فتأمل تعطيل المتأولين حقيقة الفوقية المطلقة التي هي من خصائص الربوبية، وهي المستلزمة لعظمة الرب جل جلاله، وحطها إلى كون قدره فوق قدر بني آدم، وأنه أشرف منهم، وكذلك تأويلهم علوه بهذا المعنى، وأنه كعلو الذهب على الفضة". الصواعق المنزلة ١/٩٢-٩٣. ومن اطلع على تأويلات القوم وجدهم لم يستفيدوا منها إلا تعطيل حقائق النصوص والانحراف بها عن دلالتها، إذ وجهوها إلى معان أخرى لا تستقيم لهم، ولزمهم فيها نظير