للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .


فإن قال قائل: إذا وصفنا ربنا أنه كان في الأزل لا في مكان، ثم خلق الأماكن فصار في مكان، ففي ذلك إقرار منافيه بالتغيير والانتقال إذا زال عن صفته في الأزل، وصار في مكان دون مكان، قيل له كذلك زعمت أنت أنه كان لا في مكان ثم صار في كل مكان، فقد تغير عندك معبودك، وانتقل من لا مكان إلى كل مكان، فإن قال إنه كان في الأزل في كل مكان، وكما هو الآن فقد أوجب الأماكن والأشياء معه وهذا فاسد ... "اجتماع الجيوش الإسلامية" ص ٩٧. فالله سبحانه في السماء على العرش كما أخبر عن نفسه، وكما أخبر عنه نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعلو مما تقتضيه الضرورة والفطرة، وبدائة العقول، إلا أن ذلك لا يعني أنه سبحانه حالا في مخلوقاته، لأن الجهة التي أثبتناها لله تعالى إنما هي جهة عدمية لا وجودية، فالجهة إنما هي ثابتة لله تعالى بهذا المعنى، ويوضح الإمام ابن تيمية المعنى الصحيح للجهة الذي يجب إثباته لله تعالى، فيقول: "أما من يعتقد الجهة، فإن كان يعتقد أن الله تعالى في داخل المخلوقات، وتحويه المصنوعات، وتحصره السماوات، أو يكون بعض المخلوقات فوقه وبعضها تحته، فهذا مبتدع ضال، وكذلك أيضا إن كان يعتقد أن الله يفتقر إلى شيء يحمله، إلى العرش، أو غيره، فهو أيضا مبتدع ضال، وكذلك إن جعل صفات الله مثل صفات المخلوقين ... فهو مبتدع ضال. فإن الكتاب والسنة مع العقل دلت على أن الله لا تماثله المخلوقات في شيء من الأشياء، ودلت على أن الله غني عن كل شيء، ودلت على أن الله مباين لمخلوقاته عال عليها. وإن كان يعتقد أن الخالق تعالى بائن عن المخلوقات، وأنه فوق سماواته على عرشه بائن من مخلوقاته، فإنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وأن الله غني عن العرش وعن كل ما سواه، لا يفتقر إلى شيء من المخلوقات، بل هو مع استوائه على عرشه، يحمل العرش وحمله العرش بقدرته، ولا يمثل استواء الله باستواء المخلوقين، بل يثبت لله ما أثبته لنفسه من الأسماء والصفات، وينفي عنه مماثلة المخلوقات، ويعلم أن الله {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهذا مصيب في اعتقاده، موافق لسلف الأمة وأئمتها. انظر: مقدمة درء تعارض العقل والنقل ١/٣٨-٣٩.
وهكذا نرى أن الحق في مسألة الجهة والمكان هو اعتقاد أن الله عال على مخلوقاته بائن منها منفصل عنها، وهذا يعني الجهة العدمية لا الوجودية، لأنه لا شيء من المخلوقات فوق العرش حتى يكون الله تعالى حالا فيها. وقد سبق الفيلسوف المعروف أبو اليد ابن
رشد -سبق ابن تيمية على هذا التفصيل في الجهة، وهو ما ارتضاه شيخ الإسلام لموافقته الحق

<<  <   >  >>