للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

الْمُقَدّس، وَهُوَ بن ثَمَانِي حِجَجٍ، فَنَظَرَ إِلَى عُبَّادِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَدْ لَبِسُوا مِنْ مَدَارِعِ الشَّعَرِ، وَبَرَانِسِ الصُّوفِ، وَنَظَرَ إِلَى مُتَهَجِّدِيهِمْ قَدْ خَرَقُوا التَّرَاقِيَ، وَسَلَكُوا فِيهَا السَّلَاسِلَ، وَشَدُّوهَا إِلَى حَنَايَا بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَهَالَهُ ذَلِكَ وَرَجَعَ إِلَى أَبَوَيْهِ فَمَرَّ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ.

فَقَالُوا: يَا يَحْيَى، هَلُمَّ، فَلْنَلْعَبْ، قَالَ: إِنِّي لَمْ أُخْلَقْ لِلَّعِبِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} ١.

فَأَتَى أَبَوَيْهِ فَسَأَلَهُمَا أَنْ يُدَرِّعَاهُ الشَّعَرَ فَفَعَلَا، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَ يَخْدُمُ فِيهِ نَهَارًا، وَيُسَبِّحُ فِيهِ لَيْلًا، حَتَّى أَتَتْ لَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ حِجَّةً وَأَتَاهُ الْخَوْفُ، فَسَاحَ، وَلَزِمَ أَطْرَافَ الْأَرْضِ٢ وَغِيرَانَ الشِّعَابِ.

وَخَرَجَ أَبَوَاهُ فِي طَلَبِهِ، فَوَجَدَاهُ، حِينَ نَزَلَا مِنْ جِبَالِ الْبَثْنِيَّةِ عَلَى بُحَيْرَةِ الْأُرْدُنِّ، وَقَدْ قَعَدَ عَلَى شَفِيرِ الْبُحَيْرَةِ، وَأَنْقَعَ قَدَمَيْهِ فِي الْمَاءِ، وَقَدْ كَادَ الْعَطَشُ يَذْبَحُهُ، وَهُوَ يَقُولُ: "وَعِزَّتُكَ، لَا أَذُوقُ بَارِدَ الشَّرَابِ، حَتَّى أَعْلَمَ أَيْنَ مَكَانِي مِنْكَ".

فَسَأَلَهُ أَبَوَاهُ أَنْ يَأْكُلَ قُرْصًا مِنَ الشَّعِيرِ كَانَ مَعَهُمَا، وَيَشْرَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ وَكَفَّرَ عَنْ يَمِينِهِ، فَمُدِحَ بِالْبِرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} ٣،وَرَدَّهُ أَبَوَاهُ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ.

فَكَانَ إِذَا قَامَ فِي صِلَاتِهِ بَكَى، وَيَبْكِي زَكَرِيَّا لِبُكَائِهِ، حَتَّى يُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ، حَتَّى خَرَقَتْ دُمُوعُهُ لَحْمَ خَدَّيْهِ.

فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا يَحْيَى، لَوْ أَذِنْتَ لِي لَاتَّخَذْتُ لَكَ لِبْدًا، يُوَارِي هَذَا الْخَرْقَ.

قَالَ: أَنْتِ وَذَاكَ، فَعَمَدَتْ إِلَى قِطْعَتَيْ لُبُودٍ، فَأَلْصَقَتْهُمَا عَلَى خديه،


١ الْآيَة: ١٢ من سُورَة مَرْيَم.
٢ وَفِي نُسْخَة أُخْرَى: "أَطْرَاف الْجبَال".
٣ الْآيَة: ١٤ من سُورَة مَرْيَم.

<<  <   >  >>