للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

وَضَحِكُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تَلَطَّفَ بِهَذَا الرَّضَاعِ، لِمَا أَرَادَ مِنَ الِائْتِلَافِ وَنَفْيِ الْوَحْشَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَكُونَ دُخُولُ سَالِمٍ، كَانَ حَرَامًا، أَوْ يَكُونُ هَذَا الرَّضَاعُ أَحَلَّ شَيْئًا كَانَ مَحْظُورًا، أَوْ صَارَ سَالِمٌ لَهَا بِهِ ابْنًا.

وَمِثْلُ هَذَا، مِنْ تَلَطُّفِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ، عَنِ الْحَسَنِ: "أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ بِرَجُلٍ قَدْ قَتَلَ حَمِيمًا لَهُ، فَقَالَ لَهُ: أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَفَتَعْفُو؟ قَالَ: لَا، قَالَ فَاذْهَبْ فَاقْتُلْهُ". قَالَ: فَلَمَّا جَاوَزَ بِهِ الرَّجُلُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" ١، فَخُبِّرَ الرَّجُلُ بِمَا قَالَ، فَتَرَكَهُ، فَوَلَّى وَهُوَ يَجُرُّ نِسْعَهُ٢ فِي عُنُقِهِ.

وَلَمْ يُرِدْ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي الْمَأْثَمِ، وَاسْتِيجَابِ النَّارِ، إِنْ قَتَلَهُ. وَكَيْفَ يُرِيدُ هَذَا، وَقَدْ أَبَاحَ اللَّهُ قَتْلَهُ بِالْقِصَاصِ؟!! وَلَكِنَّهُ كَرِهَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ، وَأَحَبَّ لَهُ الْعَفْوَ، فَأَوْهَمَهُ أَنَّهُ إِنْ قَتَلَهُ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْإِثْمِ لِيَعْفُوَ عَنْهُ.

وَكَانَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَقْتُلُ نَفْسًا، كَمَا قَتَلَ الْأَوَّلُ نَفْسًا، فَهَذَا قَاتِلٌ، وَذَاكَ قَاتِلٌ.

فَقَدِ اسْتَوَيَا فِي قَاتِلٍ وَقَاتِلٍ إِلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ ظَالِمٌ، وَالْآخَرَ مُقْتَصٌّ.


١ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: سفر٢٠، وَالنَّسَائِيّ: تَحْرِيم ١ قسَامَة٧، وَابْن ماجة ديات ٣٤، والدرامي: سير١٠، وَأحمد: ٣/ ١٥، ٤/ ٨، والْحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ مُسلم برقم ١٦٨٠ فِي كتاب: الْقسَامَة.
٢ وَالتسع: سير ينسج عريضًا على هَيْئَة أَعِنَّة النِّعَال تشد بِهِ الرّحال، وَسمي نسعًا لطوله. "الْقَامُوس ص٩٩٠".
قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّحِيح فِي تَأْوِيله أَنه مثله فِي أَنه لَا فضل وَلَا منَّة لأَحَدهمَا على الآخر؛ لِأَنَّهُ يسْتَوْف حَقه مِنْهُ بِخِلَاف مَا لَو عَفا عَنهُ، فَإِنَّهُ يكون لَهُ الْفضل والْمنَّة وجزيل ثَوَاب الْآخِرَة وَجَمِيل الثَّنَاء فِي الدُّنْيَا. أَو المُرَاد كنت مثله إِن كَانَ الْقَاتِل صَادِقا فِي دَعْوَى أَن الْقَتْل لم يكن عمدا، وَالله تَعَالَى أعلم.

<<  <   >  >>