وإذا عرف هذا، فقد علم أن رب العالمين أحكم الحاكمين، والعالم بكل شيء ١، والقادر على كل شيء، ومن هذا شأنه لم تخرج أفعاله وأوامره قط عن الحكمة والرحمة والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه. فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام أن تضمنته حكمة بالغة، وإن لم يعرفوا تفصليها، وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به. فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامة الشاملة التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم.
هذا وإن الله تعالى بنى أمور عباده على أن عرفهم معاني جلائل خلقه وأمره دون دقائقهما وتفاصيلهما. وهذا مطرد في الأشياء أصولها وفروعها، فأنت إذا رأيت الرجلين مثلاً أحدهما أكثر شعراً من الآخر أو أشد بياضا، أو أحد ذهناً لأمكنك أن تعرف من جهة السبب الذي أجرى الله عليه سنة الخليقة وجه اختصاص كل واحد منهما بما اختص به، وهكذا في اختلاف الصور والأشكال، ولن لو أردت تعرف المعنى الذي كان شعر هذا مثلاً يزيد على شعر الآخر بعدد معين، أو المعنى الذي فضله به في القَدْر المخصوص والتشكيل المخصوص، ومعرفة القدر الذي بينهما من التفاوت وسببه لما أمكن ذلك أصلاً، وقس على هذا جميع المخلوقات من الرمال، والجبال، والأشجار، ومقادير الكواكب، وهيئاتها.