فإذا تحققت ما قدمته لك من الحكمة في مناسك الحج، فاعلم أن شأن الحج وما في طَيِّه من الأسرار والحكم، والمصالح، لا يدركه إلا الحنفاء، الذين ضربوا في المحبة بسهم، وشأنه أَجَلّ من أن تحيط به العبارةُ، وهو خاصة هذا الدين الحنيف، حتى قيل في قوله تعالى:{حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ}[الحج:٣١] . أي حجاجاً.
وجعل الله بيته الحرام قياماً للناس، فهو عمود العالم الذي عليه بناؤه، فلو ترك الناس كلُّهم الحجَّ سنة لخَرَّتِ السماءُ على الأرض، هكذا قال ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله عنهما.
فالبيت الحرام قيام العالم، فلا يزال قياماً ما زال هذا البيت محجوجاً، فالحج هو خاصة الحنيفية، ومعونة الصلاة، وسر قول العبد: ـ لا إله إلا الله، فإنه مؤسَّسٌ على التوحيد المحض، والمحبة الخالصة، وهو استزارة المحبوب لأحبابه، ودعوتهم إلى بيته، ومحلِّ كرامته، ولهذا إذا دخلوا في هذه العبادة فشعارهم "لبيك اللهم لبيك" إجابةَ محبٍّ لدعوة حبيبه، ولهذا كان للتلبية موقعٌ عند الله، وكلما أكثرَ العبدُ منها كان أحبَّ إلى ربه، وأحضى، فهو لا يملك نفسه أن يقول:"لبيك لبيك" حتى ينقطع نَفَسُه.
وأما أسرار ما في هذه العبادة من الإحرام، واجتناب العوائد، وكشف الرأس، ونزع الثياب المعتادة، والطواف، والوقوف بعرفة، ورفع الجمار، وسائر شعائر الحج: فمما شهدت بحسنه العقول السليمة، والفطرة المستقيمة، وعلمت بأن الذي شرع هذه لا حكمةَ فوقَ حكمتِه، كما