للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كان الوجه أن يقول: ناسياً، لكنه حذفه للضرورة، فجاء به على قول من قال: رأيت قاض.

يقول للمؤذن: أذن فإن أذانك لم ينبه سيف الدولة من غفلته، وليس قلبه قاسياً فتلينه بأذانك ولم يشغله الكأس عن حق الله تعالى، ولا عن المعالي.

وذكر سيف الدولة بيتاً أحب إجازته وهو:

خرجت غداة النّحر أعترض الدّمى ... فلم أر أحلى منك في العين والقلب

الإجازة في البيت: إضافة بيت، أو أبيات إلى بيت آخر يتم به معناه، أو إضافة مصراع إلى مصراع يوافقهن ويتم معناه كقول بعضهم وقد شرب ماء:

عذب الماء وطابا

فقال أبو العتاهية:

حبّذا الماء شرابا

فما ذكره أبو العتاهية هو الإجازة ومعنى البيت: خرجت يوم الأضحى أنظر إلى وجوه الحسان وصورهم، فما رأيت فيه أحسن منك في عيني وقلبي. والدمى: جمع جمية وهي الصورة.

فقال أبو الطيب مجيزاً.

فديناك أهدى النّاس سهماً إلى قلبي ... وأقتلهم للدّارعين بلا حرب

أهدى الناس: أي أكثرهم هداية وأقصد، وسهماً نصب على التمييز، وأراد به العين. وقوله: أهدى يعني يا أهدى الناس، ويجوز أن يكون صفة لكاف الخطاب.

يقول: فديناك من معشوق يهدي سهمه إلى القلوب، ويقتل الرجال الشجعان اللابسين الدروع، وقيل أراد به سيف الدولة، يعني أنك تقتل أعداءك ولا تقيهم الدروع فعلى هذا يكون القلب بلا ياء. والأول أولى.

تفرّد بالأحكام في أهله الهوى ... فأنت جميل الخلف مستحسن الكذب

يقول: حكم الهوى يخالف سائر الأحكام، فالكذب فيه حسن! وخلف الوعد فيه جميل! وإن كان قبيحاً من سائر الناس.

وإنّي لممنوع المقاتل في الوغى ... وإن كنت مبذول المقاتل في الحبّ

المقتل: الموضع الذي إذا أصيب من الجسد مات صاحبه.

يقول: مقاتلي ممنوعة في الحرب بشجاعتي، وإن كنت مبذول المقاتل في الحب، فيصيب الهوى مقتلي بأهون سعي! وهذا أيضاً من أحكام الهوى المخالفة لسائر الأحكام.

ومن خلقت عيناك بين جفونه ... أصاب الحدور السّهل في المرتقي الصّعب

يقول: مقاتلي مبذولة في الحب، وإن كانت ممنوعة في الحرب، لأن من كان له عينان مثل عينيك، سهل عليه المرام الصعب، وأدركه بأهون سعي.

وقيل: أراد من كانت عيناك نصب جفونه، صار طوعاً لهما، فلا يملك الامتناع من سهامها.

وهذه الأبيات ليست بجيدة في الإجازة؛ لأنها لا تتضمن معنى البيت الذي أجازه، غير أنها على وزنه ورويه، وهذا القدر لا يكفي في الإجازة، بل لا بد أن يكون له تعلق بالعنى الذي في البيت الأول.

وقال يمدحه بميّا فارقين، وقد نزلها سيف الدولة في شوال سنة ثمان وثلاثين وثلاث مئة وقد أمر الغلمان والجيش بالركوب بالتجافيف والسلاح:

إذا كان مدحٌ فالنّسيب المقدّم ... أكلّ فصيحٍ قال شعراً متيّم؟!

كان ها هنا بمعنى: وقع، لا يحتاج إلى خبر.

يقول: من عادة الشعراء أن يقدموا النسيب على المديح، حتى كأن كل شاعر عاشق؟! ليس الأمر كذلك بل يجوز أن يكون فيهم من يمدح ولا ينسب، إذ لا يجب أن يكون كل شاعر عاشقاً.

لحبّ ابن عبد الله أولى فإنه ... به يبدأ الذّكر الجميل ويختم

يقول: إذا كان ذكر النّسيب لا يدل على كون الشاعر عاشقاً، فذكر محاسن سيف الدولة، والتشبب بأوصافه أولى؛ فإن الذكر الجميل يبدأ به ويختم، إذ هو في جميع أوصافه.

أطعت الغواني قبل مطمح ناظري ... إلى منظر يصغرن عنه ويعظم

طمح بنظره: إذا رفعه. وقيل: هو أن ينظر إلى مكان بعيد. وناظر العين: سوادها.

يقول: أطعت الغواني قبل أن أنظر إلى معالي الأمور، فلما نظرت إليها صغر في عيني أمر الغواني. وقوله: يصغرن أي الغواني ويعظم أي المنظر.

وقيل معناه أطعتهن قبل أن أرى سيف الدولة، فلما رأيته عظم في عيني شأنه وصغر أمرهن عندي.

تعرّض سيف الدّولة الدّهر كلّه ... يطبّق في أوصاله ويصمّم

تعرض: أي أتاه من عرضه: أي من جانبه. والتطبيق في القطع: أي يقطع المفصل فيكون أسهل، والتصميم: أن يمضي في العظم فلا ينبو عنه.

يقول: إن سيف الدولة قصد إلى الدهر فقطع أوصاله، وأمضى على أحكامه تارة بالعنف: وهو التصميم. وتارة بالرفق: وهو التطبيق، ولما جعله سيفاً: جعل مضيّ أمره على الدهر قطعاً لأوصاله.

<<  <   >  >>