فإنما يقولون: هو لا داخل العالم ولا خارجه، ولا هو فوق العالم.
وكذلك كلامهم في القدرية، يحكون عنهم إنكار العلم والكتابة، وهؤلاء هم القدرية الذين قال ابن عمر فيهم: إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، وهم الذين كانوا يقولون: إن الله أمر العباد ونهاهم، وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه، ولا من يدخل الجنة ممن يدخل النار حتى فعلوا ذلك، فعلمه بعد ما فعلوه؛ ولهذا قالوا: الأمر أنف، أي: مستأنف، يقال: روض أنف إذا كانت وافرة لم ترع قبل ذلك، يعني: أنه مستأنف العلم بالسعيد والشقي، ويبتدأ ذلك من غير أن يكون قد تقدم بذلك علم ولا كتاب، فلا يكون العمل على ما قد قدر فيحتذى به حذو القدر، بل هو أمر مستأنف مبتدأ، والواحد من الناس إذا أراد أن يعمل عملاً قدر في نفسه ما يريد عمله، ثم عمله كما قدر في نفسه، وربما أظهر ما قدره في الخارج بصورته، ويسمى هذا التقدير الذي في النفس خلقًا، ومنه قول الشاعر.
ولأنت تفري ما خلقت وبع ... ض الناس يخلق ثم لا يفرى
يقول: إذا قدرت أمرًا أمضيته وأنفذته، بخلاف غيرك فإنه عاجز عن إمضاء ما يقدره، وقال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: ٤٩] وهو سبحانه يعلم قبل أن يخلق الأشياء كل ما سيكون، وهو يخلق بمشيئته فهو يعلمه ويريده، وعلمه وإرادته قائم بنفسه، وقد يتكلم به ويخبر به كما في قوله:{لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ}[ص: ٨٥] ، وقال:{وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى}[طه: ١٢٩] ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافات: ١٧١: ١٧٣] ، وقال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}[هود: ١١٠] ، وهو سبحانه كتب ما يقدره فيما يكتبه فيه، كما قال:{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}