يكون مقرًا ومصدقًا بما عرف فهو من ثلاثة أشياء، وإن جحد وقال: لا يحتاج إلى المعرفة والتصديق، فقد قال قولاً عظيمًا، ولا أحسب أحدًا يدفع المعرفة والتصديق وكذلك العمل مع هذه الأشياء.
قلت: أحمد وأبو ثور وغيرهما من الأئمة كانوا قد عرفوا أصل قول المرجئة، وهو: أن الإيمان لا يذهب بعضه ويبقى بعضه، فلا يكون إلا شيئًا واحدًا فلا يكون ذا عدد؛ اثنين أو ثلاثة، فإنه إذا كان له عدد، أمكن ذهاب بعضه وبقاء بعضه، بل لا يكون إلا شيئًا واحدًا، ولهذا قالت الجهمية: إنه شيء واحد في القلب. وقالت الكرامية: إنه شيء واحد على اللسان، كل ذلك فرارًا من تبعض الإيمان وتعدده، فلهذا صاروا يناظرونهم بما يدل على أنه ليس شيئًا واحدًا، كما قلتم، فأبو ثور احتج بما اجتمع عليه الفقهاء المرجئة، من أنه تصديق وعمل، ولم يكن بلغه قول متكلميهم وجهميتهم، أو لم يعد خلافهم خلافًا، وأحمد ذكر أنه لابد من المعرفة والتصديق مع الإقرار، وقال: إن من جحد المعرفة والتصديق فقد قال قولاً عظيمًا، فإن فساد هذا القول معلوم من دين الإسلام؛ ولهذا لم يذهب إليه أحد قبل الكرامية، مع أن الكرامية لا تنكر وجوب المعرفة والتصديق، ولكن تقول: لا يدخل في اسم الإيمان حذرًا من تبعضه وتعدده؛ لأنهم رأوا أنه لا يمكن أن يذهب بعضه ويبقى بعضه، بل ذلك يقتضي أن يجتمع في القلب إيمان وكبر، واعتقدوا الإجماع على نفي ذلك، كما ذكر هذا الإجماع الأشعري وغيره.
وهذه الشبهة التي أوقعتهم مع علم كثير منهم وعبادته وحسن إسلامه وإيمانه؛ ولهذا دخل في إرجاء الفقهاء جماعة هم عند الأمة أهل علم ودين؛ ولهذا لم يكفر أحد من السلف أحدًا من مرجئة الفقهاء بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيرًا من النزاع فيها لفظي، لكن اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلاف قول الله ورسوله، لا سيما وقد صار ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام من أهل الإرجاء وغيرهم وإلى ظهور الفسق، فصار ذلك الخطأ اليسير في اللفظ سببًا لخطأ عظيم