وهكذا من ترك الزواج وقال: إن قدر لي أولاد حصلوا، تزوجت أو تركت. ومن رجا حصول ثمر أو زرع، بغير حرث وسقي وعمل متكلا على القدر فهو أحمق مجنون.
وهكذا سائر الأشياء دقيقها وجليلها، فعلم أن القيام بالأسباب النافعة واعتقاد نفعها داخل بقضاء الله وقدره، دون الإخلاد إلى الكسل، والسكون مع القدرة على الحركة هو الجنون١.
وقد عقد ابن سعدي في كتابه الرياض الناضرة فصلاً خاصاً بذلك، وهو الفصل الثالث والعشرون في الجمع بين إثبات عموم القدر وإثبات الأسباب.
قال فيه: "....ويظن كثير من الناس أن إثبات الأسباب ينافي الإيمان بالقضاء والقدر. وهذا غلط فاحش جداً وهو عائد على القدر بالإبطال وهو إبطال أيضاً للحكمة.
وكأن هذا الظان يقول ويعتقد: أن الإيمان بالقدر هو اعتقاد وقوع الأشياء بدون أسبابها الشرعية والقدرية.
وهذا نفي للوجود لها فإن الله ربط الكون بعضه ببعض، ونظم بعضه ببعض، وأوجد بعضه ببعض.
فهل تقول ـ يأيها الظان جهلاً ـ أن الأولى إيجاد البناء من دون بنيان وإيجاد الحبوب والثمار والزروع من دون حرث وسقي وإيجاد الأولاد والنسل من دون نكاح وإدخال الجنة من دون إيمان وعمل صالح، وإدخال النار من دون كفر ومعصية؟
بهذا الظن والتقدير أبطلت القدر وأبطلت معه الحكمة، أما علمت أن الله بحكمته وكمال قدرته جعل للمسببات أسباباً وللمقاصد طرقاً ووسائل تحصل بها، وقرر هذا في الفطر والعقول، كما قرره في الشرع، وكما نفذه في الواقع، فإنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلق له من أصناف السعي والحركة والتصرفات المتنوعة، وبنى أمور الدنيا والآخرة على ذلك النظام البديع العجيب الذي شهد أولا لله بكمال القدرة وكمال الحكمة، وأشهد العباد ثانيا: أن بهذا التنظيم والتيسير والتصريف وجه العاملين إلى أعمالهم ونشطهم على أشغالهم.
فطالب الآخرة: إذا علم أنها لا تنال إلا بالإيمان والعمل الصالح وترك ضدها جد واجتهد في تحقيق الإيمان، وكثرت تفاصيله النافعة واجتهد في كل عمل صالح