فلم أسمع بأوحش من هذا النسيب، ولا أخشن من هذا التشبيب، وذلك قوله: إن لم تكوني لي زوجة ولا صديقة فلا برحت منا ستور للتراب عليك، ولا كان جارك ما عشنا نحن إلا الموتى الذين لا يتزاورون ولا يتواصلون إلى يوم النشور. على أن كلامه يشهد عليه بأنه شاك، وإنما المعروف في أهل الرقة والظرف، والمعهود من أهل الوفاء والعطف؛ أن يفدوا أحبابهم بالنفوس، من كل مكروه وبوس؛ فأين ذهبت ولادته البصرية، وآدابه البغدادية؛ حتى اختار الغدر على الوفاء، وبلغت به طباعه إلى أجفى الجفاء؟ فاعلم هذا وإياك أن تعمل به.
قال: ومن عيوب الشعر السرق. وهو كثير الأجناس، في شعر الناس. فمنها سرقة ألفاظ، ومنها سرقة معان؛ وسرقة المعاني أكثر لأنها أخفى من الألفاظ. ومنها سرقة المعنى كله، ومنها سرقة البعض، ومنها مسروق باختصار في اللفظ وزيادة في المعنى، وهو أحسن المسروقات، ومنها مسروق بزيادة ألفاظ وقصور عن المعنى، وهو أقبحها؛ ومنها سرقة محضة بلا زيادة ولا نقص. والفضل في ذلك للمسروق منه ولا شيء للسارق، كسرقة أبي نواس في هذه القصيدة التي ذكرنا معنى أبي الشيص بكماله. قال أبو الشيص:
وقف الهوى بي حيثُ أنت فليس لي ... متأخّر عنه ولا مُتقدّمُ
فسرقه الحسن بكماله فقال:
فما حازه جودٌ ولا حلّ دونه ... ولكن يصير الجودُ حيث يصيرُ
فهذا هذا، على أن بيت أبي الشيص أحلى وأطبع، ومع حلاوته جزالة. وقد ذكر عن الحسن أنه قال: ما زلت أحسد أبا الشيص على هذا البيت حتى أخذته منه. وسرقة المعاصر سقوط همة. وبهذه القصيدة يناضل أصحاب الحسن عنه ويخاصمون خصماءه مقرين بأن ليس له افضل منها، ولا لهم إلى سوى القصيدة معدل عنها. فقس بفهمك، وأعمل فكرك، على ما وصفناه من أبواب السرق ما وجدته في أشعار لم أذكرها، يظهر لك جميع ما وصفناه، ويبدو لك جمي ما رسمناه.
قال: ومما يقع في عيوب الشعرن ويغفل الشاعر عنه، ويجوزه الأمر فيه، لصغر جرم العيب، وسلامة اللفظ الذي احتبى فيه، ثم يكون ذلك سبب غفلة النقاد أيضاً عنه مثل قول المتنبي: كفى بك داءَ أن ترى الموت شافيا فضع هذا الكلام على أنه إنما شكا داءه ووصفه بالعظم فعاد شاكياً نفسه، وجعلها أعظم الداء، لأنه أراد كفى بدائك داءً فغلط، وقال: كفى بك داءً. فصار: كفى بالسلامة داء. فالسلامة هي الداء. يريد: طول البقاء سبب للفناء. وقال الله تعالى:) وكفى بنا حاسبين (فالله هو أعظم شهيد: فجعل المتنبي نفسه أعظم الداء، ولم يرد إلا استعظام دائه. وإصلاح هذا الفساد، وبلوغه إلى المراد، أن يقول:
كَفى بالمنايا أن تكن أمانيَا ... وحسبُك داءَ أن ترى الموتَ شافيَا
فيعود الداء المستعظم كما أراد، وتزول خشونة ابتدائه، وشدة جفائه، إذ خاطب الممدوح بالكاف فجعله داء عظيما في أول كلمة سمعها منه.
وقد تأدب خواص الناس وكثير من عوامهم في مثل هذا المكان، فهم يقولون عند مخاطبات بعضهم بعضاً بما يخشن ذكره: قلت للأبعد، ويا كذا أو كذا للأبعد.