ومن عيوب هذا القسم أيضاً أن قائله قصد إلى سلطان جديد، وإلى مكان يحتاج فيه إلى التعظيم والتفخيم، وقد صدر عن ملك نوه به، أعني سيف الدولة، وأغناه بعد فقره، وشرفه ورفعه، وأدنى موضعه. فورد على كافور هذا في مرتبة شريفة، وخطة منيفة؛ فجعل بجهله يصفه في أول بيت لقيه به أنه في حالة لا يرى منها المنية، أو يرى المنية أعظم أمنية. وعلم كافور بذكائه ووصول أخبار الناس إليه أنه في حالةٍ خلاف ما قال، وأنه كفر النعمة من المنعم عليه، وأراه أن جميع ما عامله به من الجاه الواسع، والغنى القاطع، حقير لديه، صغير في عينيه. فعلم كافور في هذا الوقت أنه ممن لا تزكو لديه الصنيعة وإن عظمت، ولا تكبر في عينيه المواهب وإن جسمت؛ ولم يكن في خلق كافور من الصبر على اتساع البذل، ولا من الرغبة في أهل الآداب والفضل، ما عند سيف الدولة من ذلك، فزهد فيه بعد رغبة، وعلله بالقليل، وشاوقه بالجزيل. ورأى المتنبي أن الأسود ليس له في قلبه من الحب والقرى ما له عند سيف الدولة، فلم يدل عليه، ولا كثر من التعتب والعتاب ما يعطفه عليه؛ فأضاع وضاع، وكان يتوقع الإيقاع؛ ولكفران النعم نقم، ثم نجاه ركوب ظهر الهرب، وأقبل يعترف لسيف الدولة بالذنوب. وكان لحنه وشعره شريفين، وعقله ودينه ضعيفين. ومع ذلك فسقطاته كثيرة إلا أن محاسنه أكثر وأوفر، والمرء يعجز لا محالة. وكان يمل إلى تعقيد الكلام، ويعتمد على علمه بقبحه، فيقول من ذلك ما يصف به ناقته:
فتبيت تُسئد مُسئداً في نيّها ... إسآدها في المَهمه الأنضاء
يقول في المدح:
أنّي يكون ابا البريّة آدم ... وأبوك والثّقلان أنت محمد
ويقول في بيت آخر من قصيدة آخرى يمدح بها، والبيت لا يتعلق بشيء مما قبله فيما يظهر ولا فيما بعده بشيء:
كأنك ما جاودتَ من بان جودُه ... عليك ولا قاومتَ من لم تُقاوم
ومثل هذا كثير، وهذه الأجناس من أبيات وإن ظهرت معانيها بعد استقصاء، وأطاعت غوامضها بعد استعصاء؛ فهي مذمومة السلك، وإن اطلعت منها على أجزل الإفادة، فكيف إذا حصلت منها على السلامة بلا زيادة. وكان أيضاً يغفل عن إصلاح أشياء من كلامه على قرب ذلك الإصلاح من الفهم، مثل قوله يرثي أخت سيف الدولة:
يا أخت خيرِ أخٍ يا بنتَ خير أبٍ ... كنايةً بهما عن أشرف النسبِ
فجعل) يا أخت خير (و) بنت خير (كناية عن أشرف النسب، والكناية لا تكون إلا لعلل تتسع فيها التهم، لأن الكناية ستر وتعمية، فما بال شرف النسب يورى عند تورية المعايب، ويكنى عنه والتصريح به من المفاخر والمناقب. وقد غفل عن إصلاح هذا بلفظ فصيح، ومعنى صحيح؛ قد كاد يبرز من الجنان، إلى طرف اللسان، وهو لو فطن إليه:
يا أختَ خير أخٍ يا بنتَ خير أب ... غنى بهذا وذا عن أشرف النسب
قال أبو الريّان: وهذه الجملة التي أثبت لك فيها ما دخل على الشعراء المجيدين من التقصير والغفلة والغلط وغير ذلك، كافية ومغنية عن إيراد سوى ذلك؛ وإن لقيتها بجودة بحث وصحة قياس، ولم تحتج إلى كشف عيوب أشعار الناس.
ولعل قائلاً يقول: مال على هؤلاء وترك سواهم لميله على من بكت، ولتفضيله من عنه سكت. فقل لمن قال ذلك الأمر: على خلاف ما ظننت لم أذكر إلا الأفضل فالأفضل، والأشهر فالأشهر، إذ كانت أشعارهم هي المروية، فالحجة بهم وعليهم هي القوية؛ فقد نقلته على من ميلى عليهم، إلى ميلى الحق إليهم.
قال أبو الريان: فأما نقد المستحسن فتمثيله لك يعظم ويتسع لكثرته، فلا يسعنا ايراده ولكن ما سلم من جميع ما أوردناه فهو في حيز السالم، ثم تتسع طبقات الجودة فيه، وأحسن منه ما اعتدل مبناه، وأغرب معناه، وزاد في محمودات الشعر على سواه، ثم يمدح الأدون فالأدون، بمقدار انحطاطه إلى حيز السلامة، ثم لا مدح ولا كرامة.
قال محمد: فقلت: لله درك يا أبا الريان، فما ألين جانبك، وما أقرب غائبك، وما ألحح طالبك، وما أسعد صاحبك. فقال. أنجح الله مطالبك، وقضى مآربك، وصفى من القذى مشاربك، وبث في الحواضر والبوادي مناقبك.
تمت المقامة المعروفة بمسائل الانتقاد بلطف الفهم والاقتصاد.
والحمد لله أولاً وآخراً، وصلاته على نبيه سيدنا محمد وآله وسلامه.