للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

هذا أمرؤ القيس، أقدم الشعراء عصراً، ومقدمهم شعراً وذكراً؛ وقد اتسعت الأقوال في فضله، اتساعاً لم يفز غيره؛ حتى إن العامة تظن بل توقن أن جواد شعره لا يكبو، وحسام نظمه لا ينبو؛ وهيهات من البشر الكمال، ومن الآدميين الاستواء والاستدلال؛ يقول في قصيدته المقدمة، ومعلقته المفخمة:

ويومَ دخلتُ الخِدْرَ خِدْر عُنيزةٍ ... فقالت لك الويلاتُ إنك مُرْجِلي

فما كان أغناه عن الإقرار بهذا، وما أشك غفلته عما أدركه من الوصمة به وذلك أن فيه أعداداً كثيرة النقص والبخس؛ منها دخوله متطفلاً على من كره دخوله عليه، ومنها قول عنيزة له) لك الويلات (؛ وهي قولة لا تقال إلا لخسيس، ولا يقابل بها رئيس. فإن احتاج محتاج بأنها كانت أرأس منه. قيل له: لم يكن ذلك، لأن الرئيسة لا تركب بعيراً يدرج أو) يموت (إذا ازداد عليه ركوب راكب، بل هو بعير فقير حقير. فإن احتج له بأنه صبر على القول من أجل أنها معشوقة، قيل له وكيف يكون عاشقاً لها من يقول لها:

فمثلك حُبلى قد طَرقتُ ومُرْضِعاً ... فألهيتُها عن ذي تمائم مُحْول

وإنما المعروف للعاشق الانفراد بمعشوقته واطراح سواها، كالقيسين في ليلى ولبنى، وغيلان بمية، وجميل بثينة، وسواهم كثير. فلم يكن لها عاشقاً، بل كان فاسقاً. ثم أهجن هجنة عليه، وأسخن سخنةٍ لعينيه، إقراره بإتيان الحبلى والمرضع؛ فأما الحبلى فقد جبل الله النفوس على الزهد في إتيانها، والإعراض عن شأنها؛ منها أن الحبل علّة وأشبه العلل بالاستسقاء، ومع الحبل كمود اللون، وسوء الغذاء، وفساد النكهة، وسوء الخلق، وغير ذلك. ولا يميل إلى هذا من له نفس سوقي، دع نفس ملوكي. وأعجب من هذا أن البهائم كلها لا تنظر إلى ذوات الحمل من أجناسها، ولا تقرب منها حتى تضع أحمالها، أو تفارق فصلانها. ثم لم يكفه أن يذكر الحبلى حتى افتخر بالمرضع، وفيها من التلويث بأوضار رضيعها، ومن اهتزالها واشتغالها عن أحكام اغتسالها. وقد أخبر أن ذا التمائم المحول متعلقٌ بها بقوله) فألهيتها عن ذي تمائم محول (، وأخبر أنها ظئر ولدها، لا ظئر له ولا مرضع سواها، فدل بذلك على أنها حقيرة وقيرة، ومثل هذه لا يصبو إليها من له همة. وهذه الصفات كلها تستقذرها نفس الصعلوك والمملوك.

وقد قال أيضاً في موضع آخر من هذا الباب من قصيدة أخرى:

سموتُ إليها بعد ما نام أهلُها ... سُمُوّ حَباب الماءِ حالاً على حال

فقالتْ لَحَاك اللهُ إنّك فاضِحي ... ألستَ تَرَى السُّمارَ والناسَ أحوالي

حَلَفْتُ لها بالله حِلْفةَ فاجرِ ... لَنامُوا فما إن من حديث ولا صالي

فأخبر هاهنا أنه هين القدر عند النساء وعند نفسه برضاه قولها) لحاك الله (. فحصل على) لحاك الله (من هذه و) لك الويلات (من تلك. فشهد على نفسه أنه مكروه ومطرود، غير مرغوب في مواصلته، ولا محروص على معاشرته، ولا مرضي بمشاكلته. ثم أخبر عن نفسه أنه رضي بالحنث والفجور، وهذه أخلاق لا خلاق لها. ثم أقر في مكان آخر من شعره بما يكتمه الأحرار، ولا ينم بفتح إلا الأوضاع الأشرار، فقال:

ولما دنوتُ تَسَدّيتُها ... فثَوْباً نسيتُ وثوباً أجُرّ

وأي فخر في الإقرار بالفضيحة على نفسه وعلى حبه وأين هذا من قول أبي يعقوب الخزيمي:

ولا أسألُ الولدانَ عن وَجْهِ جارتي ... بعيداً ولا أرْعاه وهو قريبُ

وإنما سهل عليه كل هذا حرصه على ما كان ممنوعاً منه، وذلك أنه كان مبغضاً إلى النساء جداً، مفروكاً ممن ملك عصبتها لأسباب كثيرة ذكرت. وكل من حرص على نيل شيء فمنع منه فعلاً، ادعاه قولاً. وله أشباه فيما أتاه، يدعون ما ادعاه؛ إفكاً وزوراً، وكذباً وفجوراً. منهم الفرزدق، وهو القائل:

هما دلَّياني من ثمانين قامةً ... كما انقضَّ بازٍ أقتمُ الريش كاسرُه

فهذا أول كذبة، ولو قال:) من ثلاثين قامة (لكان كاذباً، لتقاصر الأرشية عن ذلك. وقد قرعه جرير هذا في قوله:

تدلَّيتَ تَزْني من ثمانين قامةً ... وقَصّرْتَ عن باعِ العُلى والمَكارم

<<  <   >  >>