المشيب، وولى العمر النضير الشيب وكساه أصناف العبر حتى ضعف عن الاصطياد وجرى عليه الدهر بالرسم المعتاد من الآلام والأنكاد فصار لا يمر عليه برهة من الأوقات إلا وهو عاجز عن تحصيل الضروري من الأقوات فتوجه في بعض الأحيان وهو يرفل في ثياب الأحزان ووقف على النهر متفكرا في تصرفات الدهر فمرت به سمكة لطيفة الحركة فرأته في ذل وانكسار سابحا في بحار الأفكار لا قدرة له ولا حركة على التقاط السمكة فلم يلتفت إليها ولم يعول عليها وقد أوطاته الحوادث أقدام الأحزان الكوارث وبدلت ربيع شبابه بخريف الهرم وحرارة جسمه ببرودة الديم فوقفت لديه وسلمت عليه وسألته عن موجب تفكره وسبب حيرته وتحيره، فقال: تفكرت فيما مضى من الشباب الفاخر وما تقضى فيه من طيب العيش وانشراح الخاطر وقد تبدل وجوده بالعدم ولم نحصل فيه إلا على الذنوب والندم وقد رقت العظام واستوى على الجسد السقام وتزلزلت الأعضاء وتراكمت فتوارت الرضى واشتعل المشيب بزيادة الآلام واتقدت نيرانه وجرت إلى السقام وقد قيل:
عزمت على إجلاء جسمي بروحه ... من خرق مشيب كل عنه المراقع
فقلت اسكنيه يا عمارة عمره ... فقالت وكيف ربت جسمك المواقع
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا ... فلا ديننا يبقى ولا ما ترقع
فلم أفق من هذه السكرةى ولا وقعت بي الفكرة إلا وسفينة العمر