للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الفرق بين الطريقتين أن هذه المنطقية منها تأتي على أوضاع وأقيسة معروفة مكررة يسترسل بعضها إلى بعض، ويراد بها إلزام المخاطب ليتحقق المعنى الذي قام به الخطاب، إلزاماً بالعقل لا بالشعور، وبطبيعة السياق لا بطبيعة المعنى، ومن أجل ذلك تدخلها المكابرة، وتتسع لها

المغالطة، وتنتدِح فيها أشياء من مثل ذلك؛ فراراً من الإلزام ودفعاً لحجته، وإن كان المعنى في نفسه واضحاً مكشوفاً، والبرهان طبيعة قائمة معروفاً.

بَيدَ أن طريقة البلاغة إنما يراد بها تحقيق المعنى، واستبراء غايته، وامتلاخُ الشبهة منه، وأخذ الوجوه والمذاهب عن النفس من أجزائه التي يتألف منها، بعد أن تُستوفى على جهتها في الكلام استيفاءً يقابل ما يمكن أن تشعر به النفس من هذه الأجزاء، حتى لا تصدِفَ عنه، ولا تجد

لها مذهباً ولا وجهاً غير القصد إليه؛ فيكون من ذلك الإلزام البياني الذي توحيه طبيعة المعنى البليغ وكان حتمأ مَقضِياً.

وهذا غرض بعيد وعَنتٌ شاق لا تبلغ إليه الوسائل الصناعية مما يتخذ إلى إجادة الكلام وإحكام صنعته البيانية، وإنما يتفق لأفراد الحكماء ودهاة السياسة ما يتفق منه، وحياً وإلهاماً، وإنما يلفونه على جهة التوهم النفسي الذي تتخلق منه خواطر الشعراء؛ فنحن نعرف علماً وتجربة أن

الشاعر قد يعالج المعنى البكر، ويريغ الوجه المخترع، فيكد في تمثلِ ذلك حتى يتسلط أثر الكد على فكره، ويضرب الملل على قلبه، ويصرفه الضجر؛ ثم لا يعطيه كل هذا طائلاً ولا يردُ عليه

حقاً من المعنى ولا باطلاً، وما فرط ولا أضاع ولا قصَّر ولا استخف، ولا كان في عمله إلا من وراء الغاية، وقد تقع إليه في تلك الحال معان كثيرة تفترق وتلتقي، ولكن ليس فيها المعنى الذي

من أجله نصب وإليه تأتَّى، فيضرِب عنه بعد المحاولة، ويقصِر بعد المطاولة حتى إذا استجمَّت خواطره، واستحدثَ منها غيرَ ما كان فيه، بلا تكلف، وهو لم يُعاودهُ ولا قصد إليه، وقد كان بلغ

منه كلالُ الحد واضطراب الحمق مبلغ الزهَقِ والمعاناة، وإنما ألهمهُ في تلك الحال إلهاماً، فعاد ما لم يمكن بكل سبب، ممكناً بغير سبب!

وربما أراد الشاعر معنى من هذه الخواطر النادرة، فلا يكاد يبتدئ التفكير فيها أو يَهُمُّ

<<  <   >  >>