للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بذلك، حتى يراه قد حصل في نفسه وهو لما يتمثل أجزاءه ولا استتم تصورَها، ولا كان إلا أنه أراد ما اتفق، واتفق له ما أراد.

ودع عنك أقوال الفلاسفة من علماء النفس وغيرهم، وما يعتلون به

لمثل ذلك من أعمال الدماغ؛ فلو أن فيهم شاعراً لأفسد عليهم ما تأولوه واستخرج من رأسه الحقيقة، فإنما الشاعر مُلهَم، وكأنما تحدث نفسه في بعض أطوارها العصبية من جهة الغيب.

وإذا رجعنا إلى العقل ورأيه في استبانة هذا الشكل، وضربنا منه شبهاً مما يضرب الطبيعيون لله من أمثالهم إذا تنالوا البحث فيما هو من علم الله، قلنا: كنا من العقل. وصار إلى العقل.

وليس شيء فوق العقل إلا لأنه لم يرتفع إليه بعد.

لما صدرنا عن هذا العقل، إلا بالبيان الغامض،

وبالرأي المشتبه، وبما يكون العاقل فيه كالمتعلل أو المتمحل له، وكشف لنا العقل عن هذا السر بسر مثله، لا يقضي هو فيه ولا ينبغي صدقَ أسبابه إذ يحيلنا على ما في الطبيعة من ذلك وأشباهه،

فإن الإلهام أقدم منه في الوجود وأظهرُ منه أثراً، وأوضحُ منه سنة؛ وما بالعقل يبني الطائر عشه ويقطع بعض الطير إلى وطنه من أقاصي الأرض أو يجيء من غايته، ولا بالعقل يصنع النمل ما

يصنع ويأتي النحل ما يأتيه من دقائق الهندسة وغير الهندسة؛ إلى أمثالٍ لذلك كثيرة، ولا أخذت هذه الأحياء الطبيعية عن الإنسان ولكن الإنسان هو أخذ عنها واهتدى بهديها! واتجه بعقله فيما وجهته إليه! ولو أن في رأس النملة عقلاً تدرك به ما تأتي وما تدَعُ، وتخرج به مما تعرف إلى ما

تجهل، وتستعمله مع حذقها الطبيعي فيما يستعمل العقل له، إذن لما جلس في كرسي أكبر علماء الاقتصاد في هذه الأرض كلها إلا نملة من النمل. . .

بيد أن الإلهام طبقة فوق العقل، ولهذا كان فوق الإرادة أيضاً، وهو محدود في الإنسان والحيوان جميعاً؛ أما هذا (أي الحيوان) فلا يتصرف فيه ولكن يتصرف به، وبذا لا يكون أبداً إلا كما هو، ولا يعطي الإرادة المطلقة لأنها دون الإلهام.

وأما ذلك (أي الإنسان) فلا يُلقاه إلا في أحوال شاذة من أحوال النفس، وبذا لا يكون أبداً غيرَ من هو، ولا يُسلَب الإرادة لأن الإلهام

فوقها.

ولو استطاع الناس يوماً أن يتصرفوا بالإلهام كما يتصرفون بالعقل، على أن يكون لهم الاثنان جميعاً، فيذهب كلاهما في مذهبه، ويتيسرون للأداة التي تخطئ وتصيب، والأداة التي تصيب ولا تخطئ - لتفاوتَ الأمر تفاوتاً قبيحاً، ولما بقي في الأرض إنسان يسمى إنساناً، ولكن الله تعالىِ

يقلب أفئدتهم، وأبصارهم، فهذه للعقل، وتلك للإلهام، وكل يغني شأنه (فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٧٤) .

وعلى هذا الوجه الذي بسطناه من أمر الإلهام والتحديث يكون وحي السياسة المنطقية التي

<<  <   >  >>