والدليل على هذا الأصل العظيم حادثة قدامة بن مظعون المشار إليها في النظم، وحاصلها أن قدامة وطائفة معه شربوا الخمر وتأولوا قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} ، فلما بلغ الخبر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه استشار الصحابة في ذلك، ثم وقع إجماعهم على رأي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا، وإن أصروا على الاستحلال قتلوا. وأرسل عمر لقدامة يقول له:" اخطأت استك الحفرة، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر"(١) .
ووجه الدلالة من هذه القصة أن الصحابة أجمعوا- والإجماع حجة شرعية كما هو معلوم - على عدم إقامة حد الردة- وهو القتل- على قدامة ومن معه، رغم كونهم وقعوا في الكفر، الذي هو استحلال شرب الخمر. والمانع من إلحاق حكم الكفر بهم هو تأولهم الآية القرآنية المذكورة على غير وجهها، وهو تأول سائغ في الجملة، وإن كان باطلا كما لا يخفى من تأمل سبب نزول الآية وما ذكره فيها أئمة التفسير.
ثم إن الصحابة أجمعوا أيضا على أن هؤلاء المستحلين، لو أصروا على الاستحلال بعد إقامة الحجة عليهم، لوجب إقامة الحد عليهم. وهذا الإجماع المذكور ليس خاصا بالصحابة، فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله:" وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام لا يتنازعون في ذلك"(٢) .
ولعل مستند هذا الإجماع النصوص الدالة على رفع المؤاخذة عند الخطأ، مثل قوله تعالى:{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} وغيرها، والله أعلم.