الذي حدث؛ فلم تفته الفرصة لبيان أو إثبات هذه المقدرة في النثر، وربما زاد عليها كما سنرى من الأمثلة الرمزية التي نسوقها الآن، إذ له رسالتان غير منقوطتين في المقامة الثامنة والعشرين والمقامة التاسعة والعشرين، وأرجو أن تلاحظ معي التزامه السجع والجناس وأحيانا الطباق في الأمثلة التي نوردها لك؛ فإليك بجزء مما ورد في المقامة الأخيرة:(من المنثور غير المنقوط) .
الحمد لله الممدوح الأسماء، المحمود الآلاء، الواسع العطاء، المدعو لحسم الأدواء، مالك الأمم، ومصور الرمم، وأهل السماح والكرم، ومهلك عاد وإرم، أدرك كل سر علمه، ووسع كل مصر حلمه، وعم كل عالم طوله، وهدَّ كل مارد حوله، أحمده حمد موحد مسلم، وأدعوه دعاء مؤمل مسلم، وهو الله لا إله إلا هو الواحد الأحد العادل الصمد،.. إلى أن قال:"وادكروا الحمام وسكرة مصرعه، والرمس وهول مطلعه، واللحد ووحدة مودَعه، والملك وروعة سؤاله، ومطلعه..".
والخطبة طويلة يكفي ما وقفنا عليه الآن، وقد رأيت خلالها تلك الألوان البديعية التي أشرنا إليها، فهي بكاملها لون آخر من الألوان الصورية أو الخطية.
فإلى صورة آخرى للحريري، وهي رسالة أخرى جاء بها بصورة تبادلية: كلمة منقوطة وأخرى خالية من النقط، وهكذا إلى آخرها، وردت في المقامة السادسة.
قال:"الكرم ثبت الله جيش سعودك يزين، واللؤم غض الدهر جفن حسودك يشين، والأروع يثيب، والمعور يخيب، والحلاحل يضيف، والماحل يخيف، والسمح يغذى، والمحك يقذى، والعطاء ينجي، والمطل يثجي، والدعاء يقي، والمدح ينقي، والحر يجزي، والإلطاط يخزي، وانطراح ذي الحرمة غي، ومحرمة بني الآمال بغي ... " هكذا إلى أن فرغ منها بهذه الصورة المعقدة المتكلفة، فهي كما ترى أشد تعقيدا من القصيدة المماثلة لها في اللون، يبدو أن المهم هو إبداء المقدرة على التشكيل ... والله أعلم.