للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

بَابُ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيُّ وَسَعِيدٌ فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ، خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ذَكَرَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُلَيْمِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: ١٠٧] وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ عَنِ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ بِأَنَّ الَّذِينَ شَقُوا فِي النَّارِ، وَالَّذِينَ سُعِدُوا فِي الْجَنَّةِ، كَانَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ هَذَا الظَّاهِرُ أَنَّ دُخُولَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الدَّارَ الْمُعَدَّةَ لَهُمْ يَقْتَرِنُ بِإِتْيَانِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ حَيْثُ أَعَدَّ لَهُمْ يَتَأَخَّرُ طَوِيلًا بَعْدَ إِتْيَانِ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، فَقَالَ جَلَّ ثناؤُهُ: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: ١٠٧] ، أَيْ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنْ وَقْفِهِمْ حَيْثُ كَانُوا فِيهِ، إِلَى أَنْ حُوسِبُوا وَوُزِنَتْ أَعْمَالُهُمْ، وَسِيقَ كُلُّ فَرِيقٍ إِلَى حَيْثُ قُضِيَ لَهُ، لِئَلَّا يُعَارِضَ الْخَبَرَ الْمُتَقَدِّمَ خَلْقٌ وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} ، لَمْ يُرِدْ أَنَّهُمْ يَبْقَوْنَ حَيْثُ ذَكَرَ وَسَمَّى قَدْرَ مَا بَقِيَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ يُنَافِي الْخُلُودَ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ طُولِ مُدَّةِ بَقَائِهِمْ، فَضَرَبَ لِلْمُخَاطَبِينَ مَثَلَ ذَلِكَ بِمُدَّةِ بَقَاءِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ جَلَّ ثناؤُهُ، وَيَعْرِفُونَ حَالَهُ أَطْوَلَ بَقَاءً مِنْهُمَا، وَلَمْ يَكُنْ فِي جُمْلَتِهِمْ شَيْءٌ أَخْبَرُونَا أَنَّهُ لَيْسَ بِمُنْقَضٍ، فَيَضْرِبُ لَهُمْ مَثَلَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِهِ، فَهَذَا الْقَدْرُ هُوَ الْمُرَادُ لَا أَنَّ بَقَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَهْلَ النَّارِ ⦗٣٣٢⦘ فِي النَّارِ، كَائِنٌ إِلَى وَقْتٍ ثُمَّ يَنْقَضِي، لَكِنَّهُ دَائِمٌ بَاقٍ، وَلَا انْقِضَاءَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ، أَنَّ الْمَعْنَى {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي أَهْلِ الْجَنَّةِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: ١٠٨] ، أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُمْ يُقِيمُونَ قَدْرَ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ثُمَّ يَخْرُجُونَ، كَانَ الْعَطَاءُ مَجْذُوذًا، فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ مَجْذُوذٍ عَلِمْنَا أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِثناءِ مَا ذَكَرْنَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَمَنْ قَالَ هَذَا قَالَ: إِلَّا بِمَعْنَى سِوَى، وَذَلِكَ يَحْسُنُ إِذَا كَانَ الْمُسْتَثْنَى أَكْثَرَ مِنَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، كَرَجُلٍ يَقُولُ: لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إِلَّا الْأَلْفَيْنِ الَّتِي هِيَ إِلَى سَنَةٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى سِوَى الْأَلْفَيْنِ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي أَهْلِ النَّارِ: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: ١٠٧] بِمَعْنَى: إِنَّهُمْ خَالِدُونَ فِي النَّارِ مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ سِوَى مَا شَاءَ رَبُّكَ مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يَتَعَاظَمَنَّكُمْ ذَلِكَ أَمْرُهُ؛ فَإِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُ ذَكَرَ مُدَّةَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فِي هَذَا الْوَجْهِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْآخِرَةَ لَا تَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارِ الدُّنْيَا، لَكِنَّهُمْ إِنِ اسْتَوْفَوْا فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مُدَّةَ الْعَالَمِ الْمُنْقَضِي، فَلَا الْجَزَاءَ الَّذِي لَقُوهُ بمُنْقَضٍ، وَلَا الْمَآبَ الَّذِي أُعِدَّ لَهُمْ مُنْقَضٍ، وَلَكِنْ هَذَا كُلُّهُ دَائِمٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ

٦٠٤ - أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى، ثنا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْجُهَيْمِ السَّمُرِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى بْنَ زِيَادٍ الْفَرَّاءَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} ، يَقُولُ الْقَائِلُ: مَا هَذَا الِاسْتِثناءُ وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ أَهْلَ النَّارِ الْخُلُودَ، وَأَهْلَ الْجَنَّةِ الْخُلُودَ؟ فَفِي ذَلِكَ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْعَلَهُ اسْتِثناءً يَسْتَثْنِيهِ وَلَا يَفْعَلُهُ كَقَوْلِكَ: وَاللَّهِ لَأَضْرِبَنَّكَ إِلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ، وَعَزِيمَتُكَ عَلَى ضَرْبِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} وَلَا يَشَاءُ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ، أَنَّ الْعَرَبَ إِذَا اسْتَثْنَتْ شَيْئًا كَبِيرًا مَعَ مِثْلِهِ، أَوْ مَعَ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ، كَانَ مَعْنَى إِلَّا وَمَعْنَى الْوَاوِ سَوَاءً، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ ⦗٣٣٣⦘ وَالْأَرْضُ} ، سِوَى مَا يَشَاءُ مِنْ زِيَادَةِ الْخُلُودِ، فَيُجْعَلُ إِلَّا مَكَانَ سِوَى، فَيَصْلُحُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: خَالِدِينَ فِيهَا مِقْدَارَ مَا كَانَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ سِوَى مَا زَادَهُمْ مِنَ الْخُلُودِ وَالْأَبَدِ وَمِثْلُهُ فِي الْكَلَامِ أَنْ تَقُولَ: لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ إِلَّا الْأَلْفَيْنِ اللَّذَيْنِ مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ، أَفَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى لِي عَلَيْكَ أَلْفٌ سِوَى الْأَلْفَيْنِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهَذَا أَحَبُّ الْوَجْهَيْنِ إِلَيَّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا خُلْفَ لِوَعْدِهِ، وَقَدْ وَصَلَ الِاسْتِثناءَ بِقَوْلِهِ: {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: ١٠٨] ، فَاسْتُدِلَّ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثناءَ لَهُمْ فِي الْخُلُودِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَنْهُمْ "

<<  <   >  >>